مَفازة المُتَّقين

بسم الله الرحمٰن الرحيم


الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ.


فقد قال ربُّنا جَلَّ جَلالُهُ في سورةٍ كريمةٍ جليلة خُتِمتْ بتقسيم العباد في مآلِهم إلىٰ فريقين:


· زُمَرٍ إلى الجحيم؛ وهم الذين كفروا.


· وزُمَرٍ إلى النعيم؛ وهم الذين آمنوا.


-قال سبحانه-:


]وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَٰبُ وَجِاْيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايَـٰتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَـٰفِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلـٰمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـٰلِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـٰمِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلـٰئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَـٰلَمِينَ (75)[ ([1])


إنها...


سُورةُ الزُّمَر


للهِ ما أعظمَ وقعَ تلكم الآيات على القلب الحيّ، ذي الإيمان الفتيّ، بين خوفٍ ورجاء؛ فإذا مُوْقُ عَينه نَدِيّ!


وقُبَيل هاته الآيات، أتىٰ تمهيدٌ لهٰذا التقسيم، كان فيه وصايا مِن الربِّ الرحيم، مَن عَمِلَ بها فهو إلىٰ نجاة وخيرٍ عميم، ومَن فَرَّط فيها فهو إلىٰ حسرة وعذابٍ مقيم.


فقال عَزَّ وَجَلَّ:


]وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَـٰحَسْرَتَىٰ علَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّـٰخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَىٰ قَدْ جَاءتْكَ ءايَـٰتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَـٰفِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)[


ومعنى (المفازة): "المنجاة، مَفْعلة مِن فاز يفوز إذا نجا" كما في "تفسير القرطبي".


فعلىٰ ذٰلك؛ يكون المعنى: (يُنَجِّي اللهُ الذين اتَّقوا بنجاتهم)، فكيف هٰذا؟!


سيتجلَّى الجوابُ مِن خلال كلامِ الأعلام إن شاء اللهُ تعالىٰ:


] بِمَفَازَتِهِمْ [:


· بفضائلهم (الطبري)


· بأعمالهم (الطبري)


· بما سبق لهم مِن السعادةِ والفوز عِند الله. (ابن كثير)


· بالطُّرق التي تؤدِّيهم إلى الفوز والنجاة. (السمعاني)


· المعنى: ينجيهم الله بفوزهم، أي: بنجاتهم من النار، وفوزهم بالجنة. (الشوكاني).


· بنجاتهم، وذٰلك لأنّ معهم آلةَ النجاة، وهي تقوى اللهِ تعالىٰ، التي هي العُدّة عند كلِّ هَول وشِدّة. (السعدي)


· بفوزهم وفلاحهم؛ لإتيانهم بأسباب الفوز، مِنَ الاعتقاداتِ الْمَبْنِيّة على الدلائل، والأعمالِ الصالحة. (القاسمي)


· أي بسبب أنهم عَدُّوا أنفسَهم في مفازةٍ بعيدة مَخُوفة، فوقفوا فيها عن كلِّ عَمَلٍ إلا بدليل؛ لئلا يَمْشُوا بغير دليلٍ فيهلكوا, فأَدَّتْهم تَقْواهُم إلى الفوز, وهو الظَّفْرُ بالمرادِ وزمانِه ومكانِه الذي سُمّيت المفازةُ به تفاؤلاً, ولذٰلك فسَّر ابنُ عبّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما المفازةَ بالأعمالِ الحسَنةِ؛ لأنها سببُ الفوزِ. وقُرئ بالجمع باعتبار أنواع المصدر([2]), وذٰلك كلُّه بعنايةِ الله بهم في الدَّارَين.


فمفازةُ كُلِّ أَحَدٍ في الأُخْرىٰ عَلىٰ قَدْرِ مَفازَتِهِ بالطاعات في الدُّنيا. (البقاعي)


· تفسيرُ المفازةِ قولُه: ] لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [، كأنه قيل: وما مفازتهم؟ قيل: لا يمسهم السوء. ويجوز أن يسمى العمل الصالح بنفسه مفازة؛ لأنه سَبَبُها. (ابن سيده)


· قيل: ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: بدواعي مَفازتِهم أو بأسبابِها. والمَفازَةُ: الْمَنْجاة. وقيل: لا حاجةَ لذلك؛ إذ المرادُ بالمَفازةِ الفلاحُ. (السمين الحلبي).



فالخلاصة:


أنّ الذي ينجو به العبادُ يوم القيامة أسبابٌ يُوفِّقُهم اللهُ جَلَّ جَلالُه لها في الدُّنيا، هي أعمالُهم الحسَنة وفضائلُهم، مِن تقوى اللهِ بقلوبهم وبجوارحهم، فأفلحوا في دُنياهم لَمّا اعتبروها –مع حُلوِها وخَضرها!- صحراءَ مُهلكة، لا ينجو منها سالكُها إلا بدليل، ولا دليلَ إلا مَن أُمِر بأن يقول:


]فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ[ [آل عمران: 31].


وقد قال الشاعر:


"إنّ للهِ عِبــادًا فُطَنَا ** طَلَّقـوا الدُّنيا وخَافوا الفِتَنا


نَظَـروا فيـها فَلمّا عَلِموا ** أنها ليســـت لِحَيٍّ وَطَنا


جَعَلـوها لُجَّةً واتَّخَـذوا ** صـالِحَ الأعمالِ فيها سُفُنا"([3])


فهٰذا شبيهٌ بالمعنى الذي لَمحه البقاعي رَحِمَهُ اللهُ مِن الآية، ولعلّ مِن هٰذا الباب قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:


(تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ)


في حديث الصِّراط:


«فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ». قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟! قَالَ: «أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ! سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّىٰ تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّىٰ يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا». "صحيح مسلم" (195).


اللّهمّ! اهدِنا وسَدِّدْنا، اللّهمّ! إنّا نَسألُكَ الْهُدىٰ والسَّداد، وحَسْبنا اللهُ ونِعْمَ الوكيل.


~^~






([1]) أرجو أن نكون حين الوصول إلىٰ هٰذا السطر قد تَلَونا الآيات! فواللهِ! إنّ آياتِ ربِّنا هي لُبُّ المسألة، ولا حديثَ أنفعُ ولا أمتعُ مِن أحسنِ الحديث؛ كلامِ رَبِّ العالمين، ومِنَ الرَّزايا أن يَفتح أحدُنا مقالاً لكاتبٍ أو فتوى لشيخ أو أو، ويكون قد صَدَّر ما دَوَّنَ بآياتٍ مِن كتابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فإذا بالبَصَرِ يَتْرُكُ رِفْقَةَ الصَّبر؛ فيَقفِز إلى السُّطورِ التالية، مُوليًّا ظهْرَه تلك الخيراتِ والبركاتِ الضَّافية! وأكثرُ ما يكون ذا مع أكثرِ ما نقرأ مِن بدايات كتابات الأثَرِيِّين، مُستفْتِحين بخطبة الحاجة، وفي بعض رواياتِها البدءُ ببضع آياتٍ كريمات، وعلىٰ كثرة الوقوف عليها؛ صارتْ مِنَ المحفوظات، فصار للقارئ شُبهةُ حُجّةٍ في تجاوزها: أعرفها! فالله المستعان، كم يَغْبن أحدُنا نفْسَه فيَحْرمَها مواهِبَ وخيرات!

([2]) "قرأ شعبةُ والأخَوان [حمزة والكِسائي] وخَلَفٌ بألفٍ بعد الزاي على الجمع، والباقون بحذفها على الإفراد" اﻫ "البدور الزهرة" ص275.

"بالجمع؛ لاختلاف أنواع ما ينجو المؤمن منه يوم القيامة، ولأنه ينجو بفضل الله وبرحمته من شدائد وأهوال مختلفة... [بالإفراد]؛ لأن المفازة والفوز واحد، فوحَّد المصدر؛ لأنه يدل على القليل والكثير بلفظه". باختصار من "الكشف عن وجوه القراءات العشر" (2/ 240).

([3]) ذكرها النووي رَحِمَهُ اللهُ في مقدمة "رياض الصالحين".