كم مِن السّنين أَخَذَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو إلى التَّوحيدِ؟ - مِن "حاشية ثلاثة الأصول"-



نصّ السّؤال (رسالة الجوّال)

90- كَمْ مِنَ السِّنين أَخَذَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو إلى التَّوحيدِ؟
وعَلَامَ يَدلُّ ذٰلك؟

البيان
الحمدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ خاتم رسل الله، أمّا بعد:
قال الإمامُ محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ:
(أَخَذَ عَلَىٰ هٰذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ*).
قال الشيخُ عبدُ الرَّحمٰن بن محمَّد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
"* أَيْ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيهِ، وَبَيَانِ الشِّرْكِ وَالْإِنْذَارِ عَنْهُ، وَالتَّحْذِيْرِ مِنْهُ عَشْرَ سِنِينَ، قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِي عِمَادُ الدِّينِ، وَقَبْلَ بَقِيَّةِ الشَّرَائِعِ.
وَبِهٰذَا يَتَبَيَّنُ لَكَ حَقِيقَةُ مَا بُعِثَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ: هُوَ الْإِنْذَارُ عَنِ الشِّرْكِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبَيَانُهُ وَتَوْضِيحُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَىٰ:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إِلَيه أَنَّهُ لَا إِلٰهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: 25). وَقَالَ:
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلَّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللّٰهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (النَّحْل: مِنَ الآية 36).
وَقَالَ عَنْ نَوْحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وشعيبٍ؛ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأُوا بِهِ قَوْمَهُمْ أَنْ قَالُوا:
﴿اعْبُدُوا اللّٰهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرَه (الأعراف: مِنَ الآية 59).
وَخَاتَمُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ شَيْءٍ دَعَاهُمْ إِلَيْهِ أَنْ قَالَ:
«قُوْلُوا: لَا إِلٰهَ إلَّا اللهُ؛ تُفْلِحُوا»[1]، فَقَالُوا:
﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلٰهًا وَاحِدًا إِنَّ هٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ۤ: 5).
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ:
«فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلٰهَ إلَّا اللهُ»[2]، وَفِي رِوايَةٍ: «إِلَىٰ أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ». وَفِي رِوايَةٍ: «فَادْعُهُمْ إِلَىٰ تَوْحِيدِ اللهِ»[3].
وَهٰذِهِ الرِّوَايَاتُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بُعِثَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ وَذٰلِكَ لِأَنَّه أَسَاسُ الْمِلَّةِ الَّذِي تُبْنَىٰ عَلَيْهِ, وَبِدُوْنِهِ لَا يَنْبَنِي شَيْءٌ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَصْلُ، وَبَقِيَّةُ شَرَائِعِ الدِّيْنِ فَرْعٌ عَنْهُ، فَإذَا زَالَ الْأَصْلُ زَالَ الْفَرْعُ، فَأَيُّ بَيَانٍ أَبْيَنُ مِنْ هٰذَا عَلَىٰ أَنَّ التَّوْحِيدَ أَوَجْبُ الْوَاجِبَاتِ، وَمَعْرِفَتَهُ أَفْرَضُ الْفَرَائِضِ؛ كَوْنُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَيُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ؟!" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول" ص 110 و111.
~~~~~~~
قال العلّامة حافظ الحكمي -رَحِمَهُ اللهُ- في "سلم الوصول"[4]:
"بَعْدَ ارْبَعِــــــــــــينَ بَدَأَ الْــــوحيُ بِهِ * ثُمَّ دَعَـــــــــــا إلىٰ سَـــــــــــبِيِلِ رَبِّهِ

عَشرَ سِنِينَ أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا * رَبًّا تَعَالىٰ شَــــــــــأْنُهُ وَوَحِّدُوا"

الخميس 5 ذي الحجة 1434


[1] - رواه الإمام أحمد وغيرُه وصححه الوالد رَحِمَهُمُ اللهُ؛ "التعليقات الحِسان علىٰ صحيح ابن حبّان" (6528).
[2] - بهٰذا السياق هو مركَّبٌ مِن روايتين:
1. «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»؛ "صحيح البخاري" (1458) و"صحيح مسلم" (19).
2. «فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»؛ "صحيح البخاري" (1395) و "صحيح مسلم" (19).
[3] - أمّا الرواية الأولىٰ فهي بحروفها في "صحيح البخاري" (7371). وأمّا الثانية فوجدت نحوَها بأسانيد ضعيفة:
1. في "الأموال" لابن زنجويه (2238): (فَادْعُهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ)، بسندٍ مرسل وفيه ابن لهيعة، ثم رواه موصولًا (2239) بسند صحيح، وقال: "نحوًا منه".
2. ومثله في "مصنف عبد الرزاق" (9420) مرسلًا وفيه: الْمُثَنَّى بن الصَّبَّاح؛ ضعيف اختلط بأخرة، "وقال عبد الرزاق: أدركته شيخًا كبيرًا بين اثنين يطوف الليل أجمع" كما في "تهذيب التهذيب" (10/ 36).
3. وفي "سنن الدارقطني" (2059): (فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ تَوْحِيدُ الله)، وفيه سعيد بن مَسْلَمة؛ ضعيف عند عامّة المحقّقين، لٰكنْ ختم الحافظ ابن عدي كلامه فيه بقوله: "وأرجو أنه ممن لا يُترك حديثه، ويحتمل في رواياته؛ فإنها مقاربة" اﻫ مِن "الكامل" (3/ 380، ط3، 1409ﻫ، دار الفكر).
وعلىٰ أيّ حال فإنّ رواية الإمام البخاري السابقة (7371) قريبة اللفظ جدًّا، فالفعل المضارع مع الحرف المصدريّ (أن يوحِّدوا) يؤول بمصدر (توحيد)، فأقلُّ حالِ هٰذا اللفظ أن يكون حسنًا لغيره.
وأغلبُ ظني أن الروايةَ المرادة هنا هي «عِبَادَةُ اللهِ»؛ إذ بها تتنوّع ألفاظُ الحديث، فيُفسِّر بعضُها بعضًا، كما سيأتي مِن كلام المؤلفِ، وقد وجدته -رَحِمَهُ اللهُ- قد نهج ذٰلك في "حاشيته علىٰ كتاب التوحيد" ضمن "الجامع الفريد في شرح كتاب التوحيد" (1/ 250، ط1، 1429ﻫ، دار ابن حزم - القاهرة)، فاستدلَّ بروايةِ «عِبَادَةُ اللهِ» في تفسيرِ روايَتَي المتن: «شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلٰهَ إلَّا اللهُ» و«يُوَحِّدُوا اللهَ».
وقصةُ هٰذا الحديث واحدة، كما ذكر الحافظ ابن حجر "الفتح" (13/ 367، ط3، 1407ﻫ، المطبعة السلفية)، فاختلافُ الألفاظ يحتمل أنه مِن تصرُّف الرُّواة، وهٰذا مِن فِقههم؛ إذ فهموا أنَّ الدعاءَ إلىٰ شهادة (أن لا إلٰه إلا الله) هو الدعاءُ إلى العبادة، وهو الدعاء إلى التوحيد، قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ رَحِمَهُم اللهُ:
"فلِلّٰهِ ما أَفْقَهَ مَن رَوىٰ هٰذا الحديثَ بهٰذه الألفاظِ المختلفةِ لفظًا المتَّفقةِ معنًى! فعَرَفوا أنَّ المرادَ مِن شهادةِ (أن لا إلٰه إلا الله) هو الإقرارُ بها عِلمًا ونطقًا وعَمَلًا، خلافًا لِمَا يظنُّه الجُهَّالُ أنَّ المرادَ مِن هٰذه الكلمة هو مجردُ النطق بها، أو الإقرارُ بوجود اللهِ أو مُلكه لكلِّ شيءٍ مِن غير شريك، فإنَّ هٰذا القَدْر قد عرفه عُبَّادُ الأوثانِ وأقرُّوا به، فضلًا عن أهلِ الكتاب، ولو كان كذٰلك لم يحتاجوا إلى الدعوةِ إليه" اﻫ المراد مِن "تيسير العزيز الحميد" (1/ 261 و262، ط1، 1428ﻫ، دار الصميعي).
[4] - البيتان (240 و241).