اليأسُ مِن الوصول إلى ما يحبّه اللهُ مِن معرفته وتوحيده: مِن الكبائر


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم
الحمدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ خَاتَمِ رُسُلِ اللهِ
أمّا بعد
فقد سئل الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- عن حديثٍ فيه أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (زِدْنِي فِيكَ تَحَيُّرًا)، وسئل خلال ذٰلك عن بعض العبارات المتعلّقة بـ(الحَيْرَة)، ومنها ما قاله الواسطي:
(نَازِلَةٌ تَنْزِلُ بِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ، بَيْنَ الإِيَاسِ وَالطَّمَعِ، لا تُطْمِعُهُمْ فِي الْوَصْلِ فَيَسْتَرِيحُونَ، وَلا تُؤَيِّسُهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فَيَسْتَرِيحُونَ).
فبيّن الإمام -رَحِمَهُ اللهُ- أنّ الحديثَ مَكذوبٌ، وأنه "لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا يَرْوِيه جَاهِلٌ أَوْ مُلْحِدٌ"، وبيَّن بُطْلانَهُ بأدلةٍ مِن الكتابِ والسُّنّة.
ثم رَدَّ علىٰ عبارةِ الواسطي بقولِه:
"وَقَوْلُ الآخَرِ: (نَازِلَةٌ تَنْزِلُ بِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ، بَيْنَ الْيَأْسِ وَالطَّمَعِ، فَلا تُطْمِعُهُمْ فِي الْوُصُولِ فَيَسْتَرِيحُونَ، وَلا تُؤَيِّسُهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فَيَسْتَرِيحُونَ)؛ فَيُقَالُ:
هٰذَا أَيْضًا حَالٌ عَارِضٌ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ، لَيْسَ هٰذَا أَمْرًا لازِمًا لِكُلِّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ اللَّهِ، وَلا هُوَ أَيْضًا غَايَةٌ مَحْمُودَةٌ، وَلٰكِنَّ بَعْضَ السَّالِكِينَ يَعْرِضُ لَهُ هٰذَا. كَمَا يُذْكَرُ عَنِ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَنْشُدُ فِي هٰذَا الْمَعْنَىٰ:
أَظَلَّتْ عَلَيْنَا مِنْكَ  يَوْمًا سَحَابَةٌ  *  أَضَاءَتْ لَنَا بَرْقًا وَأَبْطَأَ رَشَاشُهَا
فَلا غَيْمُهَا يَجْـلُو فَيَيْأَسَ طَامِعٌ  *  وَلا غَيْثُهَا يَأْتِي فَيَرْوِي عِطَاشَهَا
وَصَاحِبُ هٰذَا الْكَلامِ إلَىٰ أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيَغْفِرَ لَهُ مِثْلَ هٰذَا الْكَلامِ؛ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَىٰ أَنْ يُمْدَحَ عَلَيْهِ، أَوْ يُقْتَدَىٰ بِهِ فِيهِ!
وَمِثْلُ هٰذَا كَثِيرٌ، قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هٰذَا الْمَوْضِعِ؛ لَمَّا تَكَلَّمْنَا عَلَىٰ مَا يَعْرِضُ لِطَائِفَةٍ مِنْ كَلامٍ فِيهِ مُعَاتَبَةٌ لِجَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِقَامَةُ حُجَّةٍ عَلَيْهِ، بِالْمَجْنُونِ الْمُتَحَيِّرِ، وَإِقَامَةُ عُذْرِ الْمُحِبِّ وَأُمُورٌ تُشْبِهُ هٰذَا، قَدْ تَحَيَّزَ مَنْ قَالَ بِمُوجِبِهَا إلَى الْكُفْرِ وَالإلْحَادِ؛ إذِ الْوَاجِبُ:
. الإقْرَارُ لِلَّهِ: بِفَضْلِهِ، وَجُودِهِ، وَإِحْسَانِهِ.
. وَلِلنَّفْسِ: بِالتَّقْصِيرِ وَالذَّنْبِ.
كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
«سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: (اللَّهُمَّ! أَنْتَ رَبِّي لا إلٰهَ إلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك، وَأَنَا عَلَىٰ عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، إنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا أَنْتَ)، مَنْ قَالَهَا إِذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَىٰ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ»[1].
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الإلٰهِيِّ:
«يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَىٰ: يَا عِبَادِي! إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا؛ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذٰلِكَ؛ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ»[2].
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
«يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا؛ تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا؛ تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي؛ أَتَيْته هَرْوَلَةً»[3].
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
«أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي»[4].
وَقَدْ ثَبَتَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَىٰ كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ، وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ.
وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ مَا يَبْهَرُ الْعُقُولَ، لأَنَّ هٰذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ كِبَارٍ مِنْ مَسَائِلِ الْقَدَرِ، وَالأمْرِ، وَالْوَعْدِ، وَالْوَعِيدِ، وَالأسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، قَدْ بُسِطَ الْكَلامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هٰذَا الْمَوْضِعِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: الْكَلامُ عَلَىٰ مَا ذُكِرَ عَنْ هٰؤُلاءِ الشُّيُوخِ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: (لا تُطْمِعُهُمْ فِي الْوُصُولِ فَيَسْتَرِيحُونَ، وَلا تُؤَيِّسُهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فَيَسْتَرِيحُونَ)، هِيَ حَالٌ عَارِضٌ لِشَخْصِ قَدْ تَعَلَّقَتْ هِمَّتُهُ بِمَطْلُوبٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ يَتَرَدَّدُ فِيهِ بَيْنَ الْيَأْسِ وَالطَّمَعِ، وَهٰذَا حَالٌ مَذْمُومٌ؛ لأَنَّ الْعَبْدَ لا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتَرِحَ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا؛ بَلْ تَكُونُ هِمَّتُهُ:
- فِعْلَ الْمَأْمُورِ.
- وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ.
- وَالصَّبْرَ عَلَى الْمَقْدُورِ.
فَمَتَىٰ أُعِينَ عَلَىٰ هٰذِهِ الثَّلاثَةِ؛ جَاءَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنَ الْمَطَالِبِ:
/. مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ.
/. وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ.
/. وَلا خَطَرَ عَلَىٰ قَلْبِ بَشَرٍ!
وَلَوْ تَعَلَّقَتْ هِيَ بِمَطْلُوبٍ فَدَعَا اللهَ بِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ يُعْطِيهِ إحْدَىٰ خِصَالٍ ثَلاثٍ:
* إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ.
* وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَهَا.
* وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا.
وَلَفْظُ (الْوُصُولِ) لَفْظٌ مُجْمَلٌ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ سَالِكٍ إلا وَلَهُ غَايَةٌ يَصِلُ إلَيْهَا، وَإِذَا قِيلَ: وَصَلَ إلَى اللَّهِ أَوْ إلَىٰ تَوْحِيدِهِ أَوْ مَعْرِفَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذٰلِكَ؛ فَفِي ذٰلِكَ مِنَ الأنْوَاعِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَالدَّرَجَاتِ الْمُتَبَايِنَةِ، مَا لا يُحْصِيه إلا اللَّهُ تَعَالَىٰ!
وَيَأْسُ الإنْسَانِ أَنْ يَصِلَ إلَىٰ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ؛ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجُوَ ذٰلِكَ، وَيَطْمَعَ فِيهِ. لٰكِنْ:
o مَنْ رَجَا شَيْئًا؛ طَلَبَهُ.
o وَمَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ؛ هَرَبَ مِنْهُ.
وَإِذَا:
اجْتَهَدَ.
وَاسْتَعَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَىٰ.
وَلازَمَ الاسْتِغْفَارَ وَالاجْتِهَادَ.
فَلا بُدَّ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ!
وَإِذَا رَأَىٰ أَنَّهُ:
~ لا يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ.
~ وَلا يَحْصُلُ لَهُ حَلاوَةُ الإيمَانِ، وَنُورُ الْهِدَايَةِ.
فَلْيُكْثِرِ التَّوْبَةَ وَالاسْتِغْفَارَ.
وَلْيُلازِمِ الاجْتِهَادَ، بِحَسَبِ الإمْكَانِ.
فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: 69).
وَعَلَيْهِ:
بِإِقَامَةِ الْفَرَائِضِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَلُزُومِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ.
مُتَبَرِّئًا مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ، إلا بِهِ.
فَفِي الْجُمْلَةِ:
لَيْسَ لأَحَدِ أَنْ يَيْأَسَ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجُوَ رَحْمَةَ اللَّهِ.
كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ لا يَيْأَسَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ عَذَابَهُ.
قَالَ تَعَالَىٰ:
{أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء: 57).
قَالَ بَعْضُهُمْ:
مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ؛ فَهُوَ زِنْدِيقٌ.
وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ؛ فَهُوَ حَرُورِيٌّ.
وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ؛ فَهُوَ مُرْجِئٌ.
وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ" اﻫ المراد مِن "مجموع الفتاوىٰ" (11/ 383 - 391)، والله المستعان! ما أدقَّ الشَّعرةَ التي بين تواضُعِ الصالحين وتَورُّعِهم عن أن يُقارَنوا بمن سَلَف أو خَلَفَ مِن مشاهير الصالحين، وبين أن يَيْأسوا أن يَصِلوا إلىٰ ما وصلوا إليه!
وما أصعب الجمعَ بين هٰذا التواضعِ المحمود، وبين ما حَذَّرنا منه الإمام أبو العباس مما هو مِن الكبائر!
لٰكنّما المحَكُّ هو الإخلاص؛ فمَن رام شَأْوَ هٰؤلاء لأجْلِ أن يتقرّب زُلفىٰ إلى البَرِّ الرحيم، ويكون جوارُه منه -جَلَّ جَلالُهُ- أقربَ وأعلىٰ في جنّات النَّعيم؛ فهٰذا يُنَبِّه قَلْبَه: لا تيأسْ، ولا تتواضَعْ إلىٰ حَدِّ القُعودِ عنِ السَّعْي! فمَن بلَّغهم؛ يُبلِّغكَ، عَزَّ وَجَلَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ.
وأمّا مَن كانت هِمَّتُه أن يَشتهرَ بين الخلْقِ شُهرتَهم لِيُقال: فلان! فهٰذا خيرٌ له أن لا يَروم! إلا إذا فَرَّ إلى الربِّ الكريم تائبًا مخبتًا، ثم يكرُّ كَرَّ هٰؤلاء مُستعينًا باللهِ أن يُدْرِكَ القومَ، وما ذٰلك على الله بعزيز!


[1] - "صحيح البخاري" (6306).
[2] - "صحيح مسلم" (2577).
[3] - "صحيح مسلم" (2675) بنحوه.
[4] - "صحيح البخاري" (7405).