ما معنىٰ رجاءِ لقاءِ اللهِ؟ -مِن "حاشية ثلاثة الأصول"-

نصّ رسالة الجوّال


32- إذا تلونا آخرَ آيةٍ مِن سورة الكهف -وتُسنّ قراءة هٰذه السورة كلَّ جُمعة[1]-؛ فلنتذكَّرْ: ما معنىٰ رجاءِ لقاءِ اللهِ؟
وما هو العملُ الصالح؟
وما هو ضابطُ الرَّجاءِ الشِّرْكِيِّ؟
وعلىٰ ماذا دَلَّتْ آخرُ كلمةٍ {أَحَدًا}؟


البيان

قال الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ:
(وَدَلِيْلُ الرَّجَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَىٰ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا* وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا**} (الكهف:110) ).
جاء في "حاشية ثلاثة الأصول" ص51 و52:
" * أَيْ: فَمَنْ كَانَ:
1/ يَرْجُو ثَوَابَ اللهِ.
2/ وَيَخَافُ عِقَابَهُ[2].
3/ وَيَرْجُو الْمَصِيرَ إِلَيْهِ.
4/ وَيَأْمَلُ لِقَاءَهُ وَرُؤْيَتَهُ، وَفُسِّرَ بِالْمُعَايَنَةِ.
{فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا}، وَهُوَ:
أ) مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ اللهِ.
ب) مَقْصُودًا بِهِ وَجْهُهُ.
** أَيْ: لا يَجْعَلْ مَعَ اللهِ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِهِ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لا تَصْلُحُ إِلا لِلّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهْ، فَـ{أَحَدًا} نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ كُلَّ مَدْعُوٍّ مِنْ دُوْنِ اللهِ مِنَ:
الْمَلائِكَةِ.
وَالأَنْبِيَاءِ.
وَالأَوْلِيَاءِ.
وَالصَّالِحِيْنَ.
وَغَيْرِهِمْ.
فَإِنَّهُ إِذَا رَجَا غَيْرَ اللهِ فِيْمَا لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلا اللهُ؛ فَهُوَ مُشْرِكٌ الشِّرْكَ الأَكْبَرَ.
وَرُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ:
1. أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلّهِ.
2. وَأَنْ يَكُونَ صَوَابًا عَلَىٰ شَرِيْعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" اﻫ من "الحاشية".


[1] - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ؛ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ» رواه الحافظ البيهقيّ وحسّنه أبي رَحِمَهُما اللهُ؛ "هداية الرواة" (2/ 388).
[2] - قال الإمام البغوي -رَحِمَهُ اللهُ-: "{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} أي يخاف المصيرَ إليه، وقيل: يأمل رؤيةَ ربِّه، فالرجاءُ يكون بمعنى الخوفِ والأملِ جميعًا، قال الشاعر:
ولا كلُّ ما ترجو مِن الخير كائنٌ ... ولا كلُّ ما ترجو مِن الشَّرِّ واقِعُ
فَجَمَعَ بين الْمَعْنَيين" اﻫ مِن "تفسيره" (5/ 213. طيبة، ط 1411ﻫ).
وقال العلامة الشنقيطي رَحِمَهُ اللهُ:
"تنبيه:
اعلم أنّ الرجاءَ كقوله هنا: {يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} يُستعمَل في رجاءِ الخير، ويُستعمل في الخوفِ أيضًا. واستعمالُه في رجاءِ الخيرِ مَشهورٌ. ومِن استعمالِ الرجاءِ في الخوفِ قولُ أبي ذؤيب الهذلي:
إذا لَسَعَتْه النَّحْلُ لم يَرْجُ لَسْعَها ... وحَالفها في بيت نوب عواسل
فقوله (لم يَرْجُ لَسْعَها) أي: لم يخف لسعها. ويروىٰ: حالفها بالحاء والخاء، ويروىٰ عواسل بالسين، وعوامل بالميم.
فإذا علمتَ أنَّ الرجاء يُطْلَقُ علىٰ كِلا الأمرَين المذكورَين؛ فاعلمْ أنهما متلازمان، فمَن كان يرجو ما عند الله مِن الخير؛ فهو يخاف ما لديه مِن الشَّرِّ، كالعكس" اﻫ مِن "أضواء البيان" – (4/ 254 و255. ط 1، 1426 ﻫ، دار عالم الفوائد).
لٰكنّ بعض العلماء بيّنوا أنه لا يصحّ تفسيرُ الرجاءِ بمعنى الخوفِ إلا مع الجحْدِ، ولذٰلك بَيَّنَ شيخُ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- أنه لا يَصحّ حَمْلُ الرجاءِ في آية (الكهف) على الخوف، فقال رَحِمَهُ اللهُ:
"وأمّا ما قاله مِن أنّ الرجاء يكون بمعنى الخوف، كما في قول الشاعر:
إذا لسعه النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيتِ نوبِ عواسِل
أي لم يخف ولم يبال؛ فأكثر اللغويين والمفسِّرين علىٰ خلاف هٰذا، قالوا: ولم نجد معنى الخوف يكون رجاءً إلا ومَعَهُ جَحْد، فإذا كان كذٰلك؛ كان الخوفُ علىٰ جِهةِ الرَّجاءِ والخَوفِ، وكان الرَّجاءُ كذٰلك، كقوله عَزَّ وَجَلَّ: {لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ} (الجاثية: 14) هٰذه لِلَّذِينَ لا يَخافُون أَيَّامَ اللهِ، وكذٰلك قولُه تَعَالَىٰ: {لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} (نوح: 13)، قالوا: ولا تقول: (رَجَوْتُك) في معنىٰ خِفْتُك؛ إذْ لا جَحْدَ، فلا يُمْكِنُ حَمْلُ الرَّجاءِ فِيما ذُكِر، فهٰذا لا يَصِحُّ في هٰذا الموضِعِ" اﻫ مِن "بيان تلبيس الجهمية" (8/ 57 - 59. ط مجمع الملك فهد رَحِمَهُ اللهُ).
وقال العلامة ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
"وَمِنْهَا [أي مِن فوائد الرَّجاء]: أَنَّ الْخَوْفَ مُسْتَلْزِمٌ لِلرَّجَاءِ. وَالرَّجَاءُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْخَوْفِ. فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ. وَكُلُّ خَائِفٍ رَاجٍ. وَلِأَجْلِ هَذَا حَسُنَ وُقُوعُ الرَّجَاءِ فِي مَوْضِعٍ يَحْسُنُ فِيهِ وُقُوعُ الْخَوْفِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} (نوح: 13)، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ:
الْمَعْنَى مَا لَكَمَ لا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَةً؟ قَالُوا: وَالرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُلازِمٌ لَهُ؛ فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ مِنْ فَوَاتِ مَرْجُوِّهِ، وَالْخَوْفُ بِلا رَجَاءٍ يَأْسٌ وَقُنُوطٌ. وَقَالَ تَعَالَىٰ: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} (الجاثية: 14) قَالُوا فِي تَفْسِيرِهَا: لا يَخَافُونَ وَقَائِعَ اللَّهِ بِهِمْ، كَوَقَائِعِهِ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الأُمَمِ" اﻫ مِن "مدارج السالكين" – (2/ 242 و243. ط 2، 1429 ﻫ، دار طيبة).
كما بيَّنَ -رَحِمَهُ اللهُ- أنّ الرجاء يستلزم أمورًا، فقال:
"وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يُعْلَمَ أنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا اسْتَلْزَمَ رَجَاؤُهُ ثَلاثَةَ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: مَحَبَّةُ مَا يَرْجُوهُ.
الثَّانِي: خَوْفُهُ مِنْ فَوَاتِهِ.
الثَّالِثُ: سَعْيُهُ فِي تَحْصِيلِهِ بِحَسْبِ الإِمْكَانِ.
وَأَمَّا رَجَاءٌ لا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنْ ذٰلِكَ؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ الأَمَانِيِّ، وَالرَّجَاءُ شَيْءٌ وَالأَمَانِيُّ شَيْءٌ آخَرُ، فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ، وَالسَّائِرُ عَلَى الطَّرِيقِ إِذَا خَافَ؛ أَسْرَعَ السَّيْرَ مَخَافَةَ الْفَوَاتِ.
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةُ»" اﻫ من "الجواب الكافي" (ص 46. ط: 4، 1407 ﻫ، المكتبة السلفية).
وحديثُ أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- صححه الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- لغيره في "صحيحته" (2335)، وفي "صحيح الترغيب والترهيب" (3377).