ردّ الوالد الإمام الألباني على الاستدلال لمنهج الموازنات بكلامٍ للحافظ الذهبي

بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمد لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ خاتم رُسُلِ اللهِ، وعلىٰ آله وصحبه ومَن استمسك بهداه.
أمَّا بعد:
فهٰذا سهمٌ جديد في كنانةِ علومِ الألبانيّ؛ فتوىٰ أخرىٰ للوالد الإمام -رَحِمَهُ اللهُ- في منهج الموازنات، تؤازر المعروفَ المنتشِرَ عنه[1]؛ مزيدَ توكيد، وزيادةَ فائدة، فقد سئل رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ -ليلةَ 17 ذي الحجة 1417ﻫ-:
قال الذهبي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ:
"ثُمَّ إِنَّ الكَبِيْرَ مِنْ أَئِمَّةِ العِلْمِ إِذَا كَثُرَ صَوَابُه، وَعُلِمَ تَحَرِّيهِ لِلْحقِّ، وَاتَّسَعَ عِلْمُهُ، وَظَهَرَ ذَكَاؤُهُ، وَعُرِفَ صَلاَحُهُ وَوَرَعُهُ وَاتِّبَاعُهُ؛ يُغْفَرُ لَهُ زَلَلُهُ، وَلا نُضِلِّلْهُ وَنَطرْحُهُ وَنَنسَىٰ مَحَاسِنَهُ.
نَعَم، وَلا نَقتَدِي بِهِ فِي بِدعَتِهِ وَخَطَئِهِ، وَنَرجُو لَهُ التَّوبَةَ مِنْ ذٰلِكَ" انتهىٰ كلام الذهبي[2].
هل ترون -حفظكم الله- فيما سبق مِن كلام الذهبيِّ وجوبَ الموازنةِ في بيان الحسنات والسيّئات، أو وجوبَ ذكر السَّلبيات والإيجابيات في حال انتقادِ الأشخاص؟
فأجاب رَحِمَهُ اللهُ:
"نجد في تراجمِ رواةِ الحديث؛ منها ترجمة مُطَوَّلة، ومنها ترجمة مختصَرة.
حينما تكون الترجمة مُطَوَّلة؛ يَصْدُقُ عليهم كلامُ الذهبيِّ هٰذا، فأنتم -مثلًا- تَذْكرون جيِّدًا -إن شاء اللهُ- أنَّ كثيرًا مِن أهلِ الأهواء والبِدَع هُمْ عِند علماءِ الحديث حُجَّةٌ في روايةِ الحديث، فمنهم مَن يُعتبَر مِن الخوارج، كعِمْران بن حِطَّان المشهور، ومنهم مَن يُعتبَر أنه مِن المعتزلة مثلًا، وهٰكذا، منهم الشِّيعة، فحينما يُترجِمون لِهٰؤلاء؛ يَذكرون فيهم المدْحَ والقَدْحَ.
لٰكنْ حينما تأتي تَرجمتُهم في المختصَرات؛ يقال: فلان كذَّاب، فلان سيِّئ الحفظ، فلان كذا.. إلخ، لا يَذْكرون المحاسِنَ التي تُذْكَر في المطَوَّلات.
ولذٰلك؛ فنحن نَشْعُرُ أنَّ كلمةَ الحافظ الذهبيّ هٰذه في العصر الحاضر:
تُوضَع -أوَّلًا- في غير موضعها.
وثانيًا: يُقْصَدُ بها تَمْيِيعُ ما يُعرَف في الشَّرعِ بالحُبِّ في اللهِ والبُغْض في اللهِ.
وهٰذا يَلتقي -هٰذا الْمَشْرَب وهٰذا المذهَب مِن استغلالِ مِثل هٰذا النصِّ عن هٰذا الحافظ الإمام يَلتقي- مع كلمةٍ مَشهورةٍ لِبعضِ الدُّعاة مِن بعضِ الأحزابِ المعروفة اليوم، وهي التي تقول:
(نتعاون علىٰ ما اتَّفقنا عليه، ويَعذُر بعضُنا بعضًا فيما اختلفنا فيه).
هٰذا التعاون مع أنه أصْلٌ في الشَّرعِ مُقتَبَس مِن مِثل قولِه تَعَالَىٰ:
﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىٰ (المائدة: 2)، ولٰكنْ هٰذا التعاون -أيضًا- لا يكون علىٰ إطلاقه، وإنما ضِمنَ قاعدةِ ترجيحِ المفاسِد على المصالحِ أو العكس تمامًا.
كذٰلك تمامُ هٰذه الجملة التي تقول -وهي أَبْعَدُ عن الصواب مِن الطَّرَفِ الأولِ منها-: (ويَعْذُرُ بعضُنا بعضًا فيما اختلفْنا فيه).
هٰذا الإطلاق -أيضًا- ليس صوابًا علىٰ إطلاقه؛ لأنهم يَعْنُون -كما يدُلُّ عليه تصرُّفُهم وواقِعُ حياتِهم، بِغَضِّ النَّظَرِ عنِ الخِلافِيَّات، ولو كانت خِلافيَّاتٍ جَذْريَّةً وعَقَديَّةً كما يقولون اليوم؛ يَعْنُون- بها أَشْبَهَ ما يَعني دُعاةُ التقريبِ بين الأديان، وهٰذا أَبْعَدُ ما يكون عنِ الإسلام، لٰكنْ قريبٌ منه هو: التقريبُ بين المذاهِب، التقريب الذي كان قام به بعضُ الشِّيعة، في دَهْرٍ مَضىٰ في الأزهر، وكادت أن تَنجَح الحركة هٰذه، لٰكنْ -والحمد لله- فشلتْ؛ التقريب بين السُّنَّةِ والشِّيعة، كان هٰذا التقريبُ الْمُدَّعىٰ يَقُومُ علىٰ أن يَتنازَل أهلُ السُّنَّةِ عن كثيرٍ مِن عقائدِهم التي يُخالِفون فيها الشِّيعة، هٰذه الجملة: (يَعذُر بعضُنا بعضًا فيما اختلفنا فيه) تلتقي تمامًا مع ما كان يَرمي إليه الشِّيعةُ في مَنهجِهِم المشار إليه سابقًا، وهو التقريب بين المذاهب.
مِن أجْلِ هٰذا؛ نحن نَجِدُ بعضَ الأحزابِ القائمة اليوم هَمُّهم التَّجميعُ مِن مُختلفِ المذاهِب والمشارِب.
فكلُّنا يَعْلم أنَّ منهجَ الإخوان المسلمين لا يُفَرِّقون بين مَذْهبٍ ومَذْهبٍ، بل لا يُفَرِّقون بين سَلفيٍّ وخَلَفِيٍّ، بل بين سلفيٍّ وصُوفيٍّ، وفي كثيرٍ مِن الأدوارِ التي مَرُّوا عليها كان يوجد في أعضاء الإخوان المسلمين كثيرٌ مِن شيوخِ الصوفيَّة، وفي بعض الأحيان -وفي مصر بصورةٍ خاصة- كان في الإخوان بعض الشِّيعة.
فلذٰلك؛ الكلمة هٰذه -كلمة الحافظ الذهبيّ- يُراد بها: عدمُ الموالاةِ لِدَعْوةِ الحقِّ.
ولذٰلك؛ فالذي جَرَىٰ عليه عَمَلُ المسلمين قاطبةً حتىٰ هٰذا الزمان إلا مَنِ انحرَفَ؛ هو: التعصُّبُ لِلْحَقِّ مع أيِّ شخصٍ كان، ومحارَبةُ الباطلِ مع أيِّ شخصٍ كان، لٰكنْ هٰذا لا يَعني إنكارَ الحقِّ الذي مع ذاك الْمُبطِل.
وغايةُ ما يُمْكن أن يقال هنا -بالنسبة لهٰذه الكلمة- هي أننا إذا كُنّا وَقَفْنا أمامَ عالِمٍ مِن علماءِ المسلمين -فضلًا عن إمامٍ مِن أئمةِ المسلمين- ووَجدْنا له بعضَ الأخطاء، ولم يَتبيَّنْ لنا أنَّ هٰذا الخطأَ كان عَمْدًا، أو كان هَوًى، أو إصرارًا عليه؛ فيأتي كلامُ الحافظِ الذهبيِّ هنا تمامًا، ونستدلُّ علىٰ ذٰلك بالحديث المعروف في "صحيح البخاري"[3]:
«إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فأَصَابَ؛ فَلَهُ أَجْرَانِ، وإن أَخْطَأ؛ فَلَهُ أجْرٌ وَاحِدٌ».
أمَّا إذا تَبَيَّن أنّ رَجُلًا، ولو كان صالحًا، ولو كان له جَولاتٌ وصَولاتٌ في الجهاد في سبيلِ الله مثلًا، لٰكنْ كان عنده انحرافٌ قد أُقيمَتِ الحُجَّةُ عليه؛ حينئذ؛ نحن نُعادِيه ونُبْغِضُه في اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ.
هٰذا ما يُمكن أن يقالَ بمناسَبة هٰذا السؤال.
انتهىٰ جوابُ أبي رَحِمَهُ اللهُ
الملفّ الصوتيّ -يُنشر لِأول مرة- هنــــــــا
السبت 2 رجب 1437ه



[1]- ومنها ما هو مدوّنٌ في بعض كتب العلّامة ربيع المدخليّ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَىٰ، مثل: "المحجة البيضاء"، ومقدمة الطبعة الثانية لـ "منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال"، و"النصر العزيز على الرد الوجيز"، وهي في "مجموع كتبه" وَفق التالي: (5/ 284-288)، (10/ 153و154)، (10/ 275و258).
[2]- "سير أعلام النبلاء" (9/ 325).
[3]- برقم (7352)، ولفظه: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ؛ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ؛ فَلَهُ أَجْرٌ». وزيادة «وَاحِدٌ» في رواية الترمذي (1326) وغيرِه.