تعريفُ التوكُّلِ وبيانُ التوحيدِ فيه ودليلِه -مِن "حاشية ثلاثة الأصول"-

نصّ رسالة الجوّال


33- ما هو التوكُّل؟
ومتىٰ يكون عبادةً لله؟
ومتىٰ يكون شركًا؟
وكيف دلت آية (المائدة: 23) علىٰ أنّ إخلاصَ التوكُّلِ شَرْطٌ في صِحَّةِ الإيمان؟
وبماذا اختصَّ عن غيرِه مِن العبادات مِن حيث الجزاءُ؟


البيان

قال الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ:
(وَدَلِيْلُ التَّوَكُّلِ*: قَولُهُ تَعَالَىٰ:
{وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ**} (المائدة: 23)، وقَولُهُ:
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ***} (الطَّلاق: 3) ).
جاء في "حاشية ثلاثة الأصول" لفضيلة الشيخ ابن قاسم ص52 و53:
"* وَهُوَ صِدْقُ التَّفْوِيضِ وَالاعْتِمادِ عَلَى اللهِ فِي جَمِيعَ الأُمُورِ، وَإِظْهَارُ الْعَجْزِ والاسْتِسْلامِ لَهُ[1].
وَتَوَكَّلَ عَلَيهِ وَاتَّكَلَ: اسْتَسْلَمَ إِلَيهِ وَاعْتَمَدَ عَلَيهِ، وَوَكَلَ إِلَيه أَمْرَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَيهِ.
وَهُوَ عِبَادَةٌ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ، بَلْ هُوَ أَجَلُّ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، وَأَعْلَىٰ مَقَامَاتِ التَّوْحِيدِ، فَلا يُفَوِّضُ عَبْدٌ أَمُورَهُ وَلا يَعْتَمِدُ إلا عَلَى اللهِ عَزِّ وَجَلَّ، فَهُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ كُلَّ شَيْءٍ، بِيَدِهِ الْمُلْكُ، وَهُوَ عَلَىٰ كُلَّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَإذا كَانَ كَذٰلِكَ؛ فَالْمَخْلُوقُ وَإِنْ كَانَ لَهُ نَوعُ قُدْرَةٍ؛ فَلا يُعْتَمَدُ عَلَيهِ، وَلَوْ فِيمَا أَقَدْرَهُ اللهُ عَلَيهِ، بَلْ يَعْتَمِدُ الْعَبْدُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ.
فَالتَّوَكُّلُ عِبَادَةٌ قَلْبِيَّةٌ.
فَإِنِ اعْتَمَدَ عَلَىٰ غَيْرِ اللَّهِ فِيمَا لا يَقْدِرُ عَلَيهِ إلا اللهُ؛ فَذٰلِكَ هُوَ: الشِّرْكُ الأَكْبَرُ.
وَإِنِ اعْتَمَدَ عَلَى الأَحْيَاءِ الْحَاضِرِيْنَ وَالسَّلاطِينِ وَنَحْوِهِمْ فِيمَا أَقْدَرَهُمُ اللهُ عَلَيهِ، مِنْ رِزْقٍ أَوْ دَفْعِ أَذًى وَنَحْوِهِ؛ فَهُوَ: نَوعُ شِرْكٍ أَصْغَرَ.
وَالْمُبَاحُ: أَنْ يُوَكِّلَ شَخْصًا بِالنِّيَابَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ، لٰكِنْ لا يَقُولُ: تَوَكَّلْتُ عَلَيهِ، بَلْ: وَكَّلْتُهُ؛ فَإِنَّهُ وَلَوْ وَكَّلَهُ فَلا بُدَّ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِي ذٰلِكَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ .
** فَإِخْلاصُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الإِيمَانِ، يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَائِهِ[2]؛ فَإِنَّ تَقْديمَ الْمَعْمُولِ -وَهُوَ قولُهُ: {وَعَلَى اللّهِ}- عَلَى الْعَامِلِ -وَهُوَ كَلِمَةُ (تَوَكَّلُوا)- يُفِيدُ الْحَصْرَ، أََيْ: عَلَيهِ وَحْدَهُ {فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} لا عَلَىٰ غَيْرِه، وَهٰذِهِ قَاعِدَةُ الْعَرَبِيَّةِ.
    *** الْحَسْبَ مَعْنَاهُ: الْكَافِي، وَهٰذِهِ الآيةُ دَليلٌ ثَانٍ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- عَلَىٰ أَنَّ التَّوَكُّلَ عِبَادَةٌ مِنْ أَجَلِّ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، فَمَعْنى الآيةِ {وَمِنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أََيْ: يَعْتَمِدُ عَلَيهِ فِي أُمُورِهِ، فَهُوَ كَافِيهِ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ كَافِيَهُ؛ فَلا مَطْمَعَ لأَحَدٍ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ -تَعَالَىٰ- لِلتَّوَكُّلِ جَزَاءً غَيْرَ تَوَلِّي كِفَايَتِهِ الْعَبْدَ، فَقَالَ: {فَهُوَ حَسْبَهُ}، وَلَمْ يَأْتِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَدَلَّ عَلَىٰ عِظَمِ شَأْنِ التَّوَكُّلِ وَفَضِيلَتِهِ، وَأَنَّه أَجَلُّ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، فَصَرْفُهُ لِغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ أَكْبرُ" اﻫ.


[1] - مع الأخذِ بالأسبابِ المشروعة، وقد أشار العلامةُ ابن قاسم -رَحِمَهُ اللهُ- إلىٰ هٰذا في "حاشيته علىٰ كتاب التوحيد" (252، ط 3، 1408ﻫ، ب.ن)، فقال في آيةِ (الطَّلاق):
"وفيها دليل علىٰ فضلِ التوكل، وأنه أعظمُ الأسبابِ في جَلْبِ المنافِعِ ودَفْعِ المضارِّ، والتنبيهُ بالقيامِ بالأسباب مع التوكُّل، فلا ينبغي للعبْدِ أن يَجعل توكُّلَه عَجْزًا، ولا عَجْزَه توكُّلاً، بل يَجعل توكُّلَه مِن جُملةِ الأسباب التي لا يَتِمُّ المقصودُ إلا بها" اﻫ.
وقد بيّن العلامةُ العثيمين ما هو أقربُ تعريفٍ للتوكل، فقال:
"والتوكُّل: هو الاعتمادُ على الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ- في حصولِ المطلوب، ودَفْع المكروه، مع الثقة به، وفعل الأسباب المأذون فيها. وهٰذا أَقْرَبُ تَعريفٍ له.
ولا بد مِن أمرَين:
الأول: أن يكون الاعتمادُ على الله اعتمادًا صادقًا حقيقيًّا.
الثاني: فِعْلُ الأسبابِ المأذونِ فيها.
فمَن جَعَلَ أكثرَ اعتمادِه على الأسباب؛ نَقص توكُّلُه على الله، ويكون قادِحًا في كِفايةِ الله؛ فكأنه جَعَلَ السببَ وَحْدَه هو العُمْدَةَ فيما يَصْبو إليه مِن حُصولِ المطلوبِ وزَوالِ المكْروهِ.
ومَن جَعَلَ اعتمادَه على اللهِ مُلْغِيًا لِلأسباب؛ فقد طَعَنَ في حِكمةِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ جَعَلَ لكلِّ شيء سببًا، فمن اعتمدَ على الله اعتمادًا مجرَّدًا؛ كان قادحًا في حكمةِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ حكيم، يَربِط الأسبابَ بمسبَّباتها، كمن يَعتمد على اللهِ في حصولِ الولدِ وهو لا يتزوَّج" اﻫ مِن "القول المفيد" (2/ 87 ، ط3، 1419ﻫ، دار ابن الجوزي).
[2] - مما قاله العلامة ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- في التوكُّل:
"وهو مِن لوازم الإيمان ومقتضياته، قال الله تعالىٰ: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 23)، فجعل التوكلَ شرطًا في الإيمان، فدلَّ على انتفاءِ الإيمانِ عند انتفاءِ التوكُّل.
وفي الآيةِ الأُخرىٰ: {وَقَال مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنْتُمْ مُسْلِمِين} (يونس: 84)، فجعل دليلَ صِحَّةِ الإسلامِ التوكُّلَ.
وقال تعالىٰ: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران: 122 [و160، والمائدة: 11 وغيرهما من السُّور])، فذِكْرُ اسْمِ الإيمانِ هٰهنا دُون سائرِ أسمائهم دليلٌ على استدعاءِ الإيمانِ للتوكُّل، وأنّ قوَّةَ التوكُّلِ وضعفَه بحسبِ قوةِ الإيمانِ وضعفِه، فكلَّما قوي إيمانُ العبدِ كان توكُّله أقوىٰ، وإذا ضَعُفَ الإيمانُ ضَعُفَ التوكُّلُ، وإذا كان التوكُّلُ ضعيفًا فهو دليلٌ علىٰ ضعفِ الإيمانِ ولا بدّ" اﻫ مِن "طريق الهجرتين" (ص557 ، ط 1، 1429 ﻫ، دار عالم الفوائد).