تفسيرٌ مختصَر لمَطلَعِ سورةِ (المدَّثِّر) -مِن "حاشية ثلاثة الأصول"-



نصّ السّؤال (رسالة الجوّال)

89- فَسِّري مَطْلَعَ سُورةِ (المُدَّثِّر)، مُبَيِّنةً تَكرارَ التَّوجيهِ إلى التَّوحيدِ والتَّحْذيرِ مِن الشِّرْكِ.

البيان
الحمدُ لله وحده، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ مَن لا نبيَّ بعده، أمّا بعد:
قال الإمامُ محمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ:
(بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ، وَبِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ(1)، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ(2) (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3) (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4) (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5) (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ(6) (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ(7) (7) (الْمُدَّثِّر).
وَمَعْنَىٰ: ﴿قُمْ فَأَنذِرْ: يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ(8).
﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ: أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ(9).
﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ: أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ(10).
﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ: الرُّجْزُ: الأَصْنَامُ(11)، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا(12)، وَالْبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلِهَا(13)).
قال الشيخُ عبدُ الرَّحمٰن بن محمَّد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
"(1) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- جُمْلَةً مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْظَمُهَا وَأَعْلَاهَا:
مَعْرِفَةُ مَا بُعِثَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّه بُعِثَ بِـ:
النِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ.
وَالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ.
وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ النِّذَارَةَ عَنِ الشِّرْكِ قَبْلَ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ:
لِأَنّ هٰذَا مَدْلُولُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ (لَا إِلٰهَ إلَّا اللهُ).
وَلَأَنَّ الْآيَةَ الْآتِيَةَ تَقْتَضِي ذٰلِكَ، فَبَدَأَ بِجَانِبِ الشِّرْكِ؛ لِكَوْنِ الْعِبَادَةِ لَا تَصِحُّ مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي، فَلَوْ وُجِدَتْ وَالْمَنَافِي لَهَا مَوْجُودٌ؛ لَمْ تَصِحَّ.
ثُمَّ ثَنَّىٰ بِالتَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّه أَوَجَبُ الْوَاجِبَاتِ، وَلَا يُرْفَعُ عَمَلٌ إلَّا بِهِ.
(2) هٰذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ أُرْسِلَ بِهَا، وَأَوَّلُ أَمْرٍ طَرَقَ سَمْعَهُ فِي حَالِ إِرْسَالِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَذٰلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَّى الْمَلَكَ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءَ حِيْنَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ ﴿اقْرَأْ؛ رُعِبَ مِنْهُ، فَأَتَىٰ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَقَالَ: «دَثِّرُوْنِي»، فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ[1].
أَي: الْمُتَدَثِّرُ بِثِيَابِهِ، الْمُتَغَشِّي بِهَا مِنَ الرُّعْبِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ[2].
﴿قُمْ أَي: مِنْ دِثَارِكَ؛ فَأَنْذِرْهُمْ وَحَذِّرْهُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا.
بِهٰذَا حَصَلَ الْإِرْسَالُ، كَمَا حَصَلَ بالأَوَّلِ النُّبُوَّةُ[3].
(3) أَي: عَظِّمْ رَبِّكَ عَمَّا يَقُولُهُ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ.
(4) أي: نَفْسَكَ طَهِّرْهَا عَنِ الذُّنُوبِ، كَنَّىٰ عَنِ النَّفْسِ بِالثَّوْبِ؛ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وهٰذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ[4].
أَوْ: عَمَلَكَ فَأَصْلِحِ[5].
وفُسِّرَ بِغَيْرِ ذٰلِكَ[6].
 (5) أَي: اتْرُكِ الْأَوْثَانَ وَلَا تَقْرَبْهَا، ﴿وَالرُّجْزَ: الْقَذَرَ، مِثْلُ الرِّجْسِ، قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ (الحج: من الآية30)، بَلْ فَسَّرَ الْمُصَنِّفُ هٰذِهِ الْآيَاتِ بِمَا فِيْهِ كِفَايَةٌ.
(6) أَي: لَا تُعْطِ مَالَكَ مُصَانَعَةً لِتُعْطَىٰ أَكْثَرَ مِنْهُ.
أَوْ: لَا تَمْنُنْ عَلَى اللهِ بِعَمَلِكَ فَتَسْتَكْثِرَهُ.
أَوْ: لَا يَكثُرْ مِنْ عَمَلِكَ فِي عَيْنِكَ.
أَوْ: لَا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ مِنَ الْخَيْرِ[7].
(7) أَيْ: عَلَىٰ طَاعَتِهِ وَأَوَامِرِهِ.
أَوْ عَلَىٰ مَا أُوْذِيْتَ فِي اللهِ[8].
(8) فَإِنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بِهِ، وَلَا يُرْفَعُ مَعَهُ عَمَلٌ. وَالتَّوْحِيدَ أَوْجَبُ الْوَاجِبَاتِ، وَأَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَىٰ آخِرِهِمْ: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ (الأعراف: مِنَ الآية 59).
فَشَمَّرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَاقِ الْعَزْمِ، وَأَنْذَرَ النَّاسَ، وَعَمَّ وَخَصَّ، وَأُوْذِيَ عَلَىٰ ذٰلِكَ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ.
وَجَرَىٰ لِلْمُصَنِّفِ -مُجَدِّدِ هٰذِهِ الدَّعْوَةِ رَحِمَهُ اللهُ- نَحْوٌ مِمَّا جَرَىٰ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابِهِ، وَصَبَرُوا، وَكَانَتْ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ، وَأَظْهَرَ اللهُ الدِّيْنَ بَعْدَ دُرُوسِهِ عَلَىٰ يَدَيْهِ وَأتْبَاعِهِ، فَلِلّٰهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَجَزَاهُ اللهُ -وَمَنْ آوَاهُ وَنَصَرَهُ- عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِيْنَ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ.
(9) فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْإِلٰهُ الْحَقُّ، لَا نِدَّ لَهُ، وَلَا مِثْلَ لَهُ، فَلَا شَرِيكَ لَهُ فِي إِلٰهِيَّتِهِ، وَلَا فِي رُبُوبِيَّتِهِ، بَلْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا يُشْرَكُ مَعَهُ أَحَدٌ فِي عِبَادَتِهِ؛ فَإِنَّ الشِّرْكَ مَعَ كَوْنِهِ أَظْلَمَ الظُّلْمِ؛ فَهُوَ هَضْمٌ لِلْرُّبُوبِيَّةِ، وَتَنَقُّصٌ لِلْأُلُوْهِيَّةِ, وَسُوءُ ظَنٍّ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
(10) وَهُوَ أَعْظَمُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بِهِ.
أَوْ: طَهِّرْ نَفْسَكَ مِمَّا يُسْتَقْذَرُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
(11) قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ[9].
وَيُقَالُ: الشِّرْكُ[10].
وَيُقَالُ: الزَّايُ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ السِّيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ (الْحَجّ: مِنَ الآية 30)[11].
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: اتْرُكِ الْمَآثِمَ، وَالْمَعْنَىٰ: اتْرُكْ كُلَّ مَا أَوْجَبَ الْعَذَابَ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ[12].
(12) وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا. وَهَجَرَ الشَّيْءَ يَهْجُرُهُ: صَرَمَهُ وَقَطَعَهُ، وَالْهَجْرُ: ضِدُّ الْوَصْلِ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَرْكِ الْأَوْثَانِ وَمُبَاعَدَتِهَا وَمُصَارَمَتِهَا وَجَمِيعِ الْمَآثِمِ.
(13) قَالَ تَعَالَىٰ عَنِ الْخَلِيلِ: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونَ اللّٰهِ (مريم: مِنَ الآية 48)، ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونَ اللّٰهِ (مريم: مِنَ الآية 49)، فَلَا يَتِمُّ تَوْحِيْدُ الْعَبْدِ حَتَّىٰ يَتَبَرَّأَ مِنَ الْكُفْرِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ وَيُبَاعِدَهُمْ وَيُنَابِذَهُمْ" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول" ص 106 - 109.

 
  قال العلامة ابن قُتيبة رَحِمَهُ اللهُ في "غريب القرآن" (ص 495، 1398ﻫ، دار الكتب العلمية): 
"﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾: يعني: الأَوثان، أَصْلُ الرُّجْزِ: الْعَذَابُ، فَسُمِّيَتِ الْأَوْثَانُ رِجْزًا؛ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى الْعَذَاب" اﻫ. نسأل الله العافية.


الجمعة 7 ذي القعدة 1434


[1] - سببُ نزولِ صدرِ سورةِ (المدَّثِّر) متفقٌ عليه مِن حديث جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، "صحيح البخاري" (4922 وغيره من مواضع)، "صحيح مسلم" (161).
[2] - يُنظر "فتْح البيان في مقاصد القرآن" للعلامة محمد صديق خان بن حسن (14/ 401، ط 1412ﻫ ، المكتبة العصرية).
[3] - "تفسير القرآن العظيم" للحافظ ابن كثير (8/ 262، ط 2، 1420هـ، دار طيبة).
[4] - "تفسير الطبري" (23/ 406 و407، دار هجر).
[5] - المرجع السابق (23/ 408).
[6] - يُنظَر "تفسير القرآن العظيم" (8/ 263 و264، مصدر سابق).
[7] - تُنظر الأقوال في "تفسير البغوي" (8/ 265، ط 1412ﻫ، دار طيبة).
[8] - المرجع السابق (8/ 266).
[9] - "تفسير الطبري" (23/ 410 و411، مصدر سابق). 
[10] - "تفسير البغوي" (8/ 265، مصدر سابق).
[11] - المرجع السابق (8/ 265).
[12] - نحوه في المرجع السابق (8/ 265).