ما هو أَعْظَمُ غِشٍّ؟



بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمدُ لله وَحْدَه، والصَّلاةُ والسَّلامُ علىٰ مَن لا نبيَّ بَعْدَه، وعلىٰ آلِه وصحبِه ومَنِ اتَّبَعَ هَدْيَه.
أما بعد..
فما هو أَعْظَمُ غِشٍّ؟
اشتريت سيارةً أخْفَوا عنك عطلًا فيها، أو طلسوا هنا وهناك شيئًا من الرّشّ؟
مرضت فدلُّوك إلى طبيبٍ؛ فإذا هو متطبّب؛ زاد القرحَ ووسَّع الجرح؟
يهمّك الجارُ قبل الدار، فسألت فزخرفوا المدحَ، وبعد السَّكن تمنّيت لو أنه جارُ بادية؟
كيف إذا رافق هٰذا المنحىٰ منحًى معاكسٌ له؟! أي:
عُرض عليك سيارةٌ، طبيبٌ، بيتٌ ذو جارٍ...؛ علىٰ خير ما تَرومه؛ فقبَّحها لك قومٌ ذمًّا وقَدحًا، زورًا وبهتانًا؛ فتركْتها والخيرُ فيها؟!
أمثلةُ الغِشِّ كثيرة، وما ذكرتُه بعضٌ قليلٌ، وإنه لغِشٌّ عظيمٌ! ولٰكنه مهما بلغ فغايته أنْ يُفقدك حياتَك الدنيا! أو نعيمَها!
فما الحال مع غشٍّ قد يُخْسِر الحياةَ الحيوانَ الدائمةَ الأبقى الخير؟! علىٰ تفاوُت في هٰذا الخسارِ؛ فإنه دركات، كما أنَّ الفوزَ مَراقٍ ودرجات!
يا لها مِن صدمةٍ إذا اكتشفتَ بعد زمنٍ قطعتَه مِن عُمرك أنّ مَن تَقرأ له، أو تَستمع إليه، أو تحضر حلقتَه، أو تقتبس مِن كلامه في مقالاتك، مطويّاتك، كُتيّباتك، أو تدلُّ عليه مَن تريد الخيرَ لهم.. إلخ ...؛ ناهجٌ غيرَ الصراطِ المستقيم الذي هو غايتُك!
ومصيبةٌ أدهىٰ إن كان هٰذا الذي (تقرأ له.. تستمع.. تحضر...) يَدِّعي أنه علىٰ نهج السَّلف!
ومصيبةٌ أَمَرّ أنّ بعضَ مَن حولكَ -ممن هم في نظر المجتمع عقلاء ثقات!- يَعْلَمُ حالَ هٰذا؛ لٰكنه لَمْ ولا يُحَذِّرك! بل لعله مِن التحذيرِ حَذَّرك!
السبب؟
تأويلات وتعليلات هي للإصابةِ بِصَقيع الدهش مُسبِّبات؛ إذا علمتَ أنه محضُ وَرعٍ (بارد)، وقيَّض اللهُ لك سبيلَ سلامٍ فتعلَّمْت أنّ العلماءَ قد بيَّنوا ما يُستثنىٰ مِنَ الغيبة المحرَّمة، وأنَّ مِن ضمن هاته المستثنَيات: التحذيرَ مِنَ المنحرفين؛ ﴿وَكَذَٰلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(الأنعام: 55).
"الذَّمُّ لَيْـــسَ بِغِيبَةٍ فِي سِـــــــــــــــــــــتَّةٍ * مُتَظَلِّمٍ وَمُعَرِّفٍ وَمُحَــــــــــــــــــــــــــذِّرٍ
وَلِمُظْهِرٍ فِسْقًا وَمُسْتَفْتٍ وَمَنْ * طَلَبَ الْإِعَانَةَ فِي إزَالَةِ مُنْكَرٍ"[1]
ومصيبةٌ علىٰ تلالِ ما سبق: أنّ هٰؤلاء لا إشكالَ عندهم في أنَّ القَدْحَ في البائعِ، الطبيبِ، الجارِ.. إلخ المستحقِّ لِلقَدْحِ؛ ليس مِن الغِيبة، بل هو نصيحة!
فيا مَن ترىٰ دِينَكَ دَمَكَ وَلَحْمَكَ! ابْكِ علىٰ تعظيمِ قومٍ لِلأبدانِ على الأديان!
والرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ يقول:
«وَمَنْ أَشَارَ عَلَىٰ أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ؛ فَقَدْ خَانَهُ»[2].
ومصيبةٌ أخرىٰ أنّ منهم فريقًا يَجْرحون بعضَ أولٰئك، ولٰكنْ مَن؟ مَن كان صوفيًّا جَلْدًا مُحترِقًا، قدِ انتشر دخانُه حتىٰ بات يَنفِر منه العوامُّ الأُمِّيُّون، مِن الذين لم تتلوّثْ لديهم فطرةُ التوحيد، فليس مِنَ الصَّعبِ أن يجزموا بضلالِ مَن افترىٰ على اللهِ جَلَّ جَلالُهُ فقال أن الوليَّ يَهَبُ الولدَ![3]
أمّا مَن كان يتلبّس بلبوس السُّنّة، ويَبدؤنا بها؛ فهنا يُجْرَح عِلْمُ الجَرْح؟!
روى الحافظُ ابن بطة -رَحِمَهُ اللهُ- عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ مُهَلْهَلٍ؛ قَالَ:
"لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ إِذَا جَلَسْتَ إِلَيْهِ يُحَدِّثُكَ بِبِدْعَتِهِ؛ حَذَرْتَهُ وَفَرَرْتَ مِنْهُ، وَلٰكِنَّهُ يُحَدِّثُكَ بِأَحَادِيثِ السُّنَّةِ فِي بُدُوِّ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ يُدْخِلُ عَلَيْكَ بِدْعَتَهُ، فَلَعَلَّهَا تَلْزَمُ قَلْبَكَ، فَمَتَىٰ تَخْرُجُ مِنْ قَلْبِكَ؟!"[4].
إذ بَعْدَ البَدءِ يَدُعُّ بِدَعَهُ في أفكارِنا، ويَدُسُّ سُّمَّ مُجَانبةِ هَدْيِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ في قلوبنا، سُمًّا يُحَلِّيه في هٰذه القلوبِ بِضْعُ كلماتٍ في التوحيد، الذي نُعْلي شأوَه ونُجِلُّه، ونَعلم أنّا خُلِقْنا له، فأنّىٰ لنا نَكْشُ ضَلالِ هٰذا إلَّا بمِنقاش، ولَسْنا مالِكين له ونحن لا زلنا نَحْبو في طريقِ العلمِ وما مِنَّا قائمٌ ماش؟!
فهٰذا الذي تشتد حاجتُنا فيه إلىٰ تبيانٍ وشَرْح، ويَلجأ فيه الفطاحلُ أهلُ الشأنِ إلىٰ ضرورةِ الجرح، نعم (ضرورة)؛ فالشأن ليس ميراثَ دُنْيا، بل هو الذّبُّ عن ميراثِ أنْبِيا!
فالحمدُ لِلّٰهِ الذي قَيَّضَ لنا في هٰذا الخَلَفِ أتْباعًا لِلسَّلَفِ عُدُولًا، يَحْملون العِلمَ «يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِيْنَ، وَانتِحَالَ الْمُبْطِلِيْنَ، وَتَأْوِيْلَ الْجَاهِلِيْنَ»[5].
يُحَذِّروننا السيرَ وراء دُعاةٍ:
"رَكِبُوا ثَنِيَّاتِ الطَّرِيقِ فَأَصْبَحُوا * مُتَنَكِّبِينَ عَنِ الطَّرِيقِ الْأَكْبَرِ"[6]
وهٰذا واجبُ المبتدئين والصِّغار -في العلم-؛ أن يأخذوا بنُصْحِ الناصحين أهلِ هٰذا العلم.
وحينما نَسمع تحذيرًا لنا مِن عِلم الجرح والتعديل؛ فإنما المرادُ تَرْكُ الخوضِ فيه بلا عِلم، مِن جهة، والتنبيهُ إلىٰ أنه ليس لنا -لأنه ليس بوسعنا!- شأنُ إصدارِ الحُكْمِ والتوصيف، مِن جهةٍ أخرىٰ، لٰكنْ لنا -بل علينا!- الأخذُ بمقتضى الحُكم والتوصيف، ويَستحيل أن يكون المرادُ نَبْذَ هٰذا العلمِ فلا يُنتفَع بكلامِ أهلِه؛ إذ كيف سنُحَقِّق الوصيةَ السِّيرينيَّة:
"إِنَّ هَـٰذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ"[7]؟!
والحِكمةَ الحَكَمِيَّة:
"حَكِّمْ نَبِيَّكَ وانْقَدْ وارْضَ سُــــــــــــــنَّتَهُ * مَعَ اليَقينِ وحَوْلَ الشَّــــــكِّ لَا تَحُمِ
واعْضُضْ عَلَيها وجانِبْ كلَّ مُحْدَثَةٍ * وقُلْ لِذِي بِدْعَةٍ يَدْعُوكَ: لَا نَعَمِ"[8]
وغيرَ ذٰلك مما هو كثيرٌ في وصايا وحِكَمِ الْمُتَقدِّمين والمتَأخِّرين مِن العلماء الصالحين؟!
نعم يُحَذَّر الأغمارُ الذين ليس لهم في العلم إلَّا شِبْرٌ أو بضع أفتار! مِن أن يتولَّوا هُم هٰذا الأمرَ العظيمَ، فيكونوا هُم مصدرَ الحُكمِ على الآخرين، والحالُ أنهم فاقدون لشروط ذٰلك!
فالشأنُ هنا كما في علمِ الحديث:
لِلتصحيحِ والتضعيفِ أهلٌ، لٰكنْ هل هم يَشتغلون بذٰلك لِأنفسِهم فقط؟! أم أنّ لِمَن سِواهم أن يَأخُذوا بِأحكامِهم على الأحاديث؛ نَشْرًا لِلصحيح وتحذيرًا مِن الضعيف، واعتمادًا على الأول واستغناءً به عن الثاني؟!
فما الفَرْقُ بين:
(اترُكوا هٰذا العلمَ لأهلِه)؛ فيتخرّج الطالبُ غيرَ مُمَيِّزٍ: مَن يُوالي وممَّن يَبرأ؟ غيرَ مُفرِّقٍ: عمّن يأخذ ومَن يَدَع؟
وبين:
(اترُكوا هٰذا العلمَ لأهلِه)؛ فيَطْفَق مُتلقِّفًا كلَّ حديثٍ يَسْمَعُه أو يَقرأه، متبوِّءًا مقعدًا مِن النار!
ما الفرق؟!
لا أسمع إلا صدىٰ نداءٍ: ما الفرق.. ما الفرق.. ما الفرق..
لا جَرَمَ أنه لا جواب عند القوم؛ ألَا ما أَوْضَحَ الأمْرَ وما أَنْصَعَ صُبْحَه!
ولست أدري كيف تطيب نفْسُ مُعَلِّمٍ يَدري أنّ تلميذًا له يَعُدُّ فلانًا مِن مصادر العلم أو الفتوىٰ، مع أنّ فيه وفيه مما لا يتنبَّه له ذاك التلميذ!
وعودًا علىٰ مقدمة هٰذا المزبور مِن ضربِ المثال بالأدنىٰ وسيلةً إلى الأعلىٰ:
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
«الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ إِنْ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ أَنْ لَا يُبَيِّنَهُ لَهُ»[9].
بيِّنْ أيها المعلِّم! ونَقِّ بيضاءَ الفُهومِ مِن الرَّقْش.
ويا أيها الطالب! فتِّشْ قبل أن تقع في شَرَكِ الغِشّ!
وفيما يلي مثالٌ لِمُقدِّمةِ نُصحٍ، أسأل اللهَ أن يجزي صاحبَه عنه خيرَ الجزاء:
قال فضيلة العلَّامة ربيع المدخلي -حَفِظَهُ الله، وأيَّدهُ بتوفيقه وتولَّاه- في سياقِ مقدّمته لكتابه "العواصم مما في كُتُبِ (سيّد قُطب) مِن القواصم":
"ولقد حَذَّرَنا رسولُنا الكريمُ -صَلواتُ اللهِ عَلَيهِ وسَلامُه- مِن الغِشِّ، وتَبَرَّأ مِنَ الغَشَّاشِين.
فعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَىٰ صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ:
«مَا هٰذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟!» قَالَ:
أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ:
«أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّىٰ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مني»[10].
وفي رواية عنه: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ؛ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا؛ فَلَيْسَ مِنَّا»[11].
هٰذا مِن غِشِّ المسلمين في دُنياهم، فكيف بمن يغشُّ الناسَ في دِينهم، ويُزيّن لهم الباطلَ ويزخرفه ويلمُّعه وأهلَه، ويُشوِّه الحقَّ وأهلَه، ويَستخدم وسائل رهيبة قد تعجز عنها شياطينُ الجنِّ وقد لا يُحسنونها، وينفذ خططًا رهيبة جهنّميّة لِتحقيق أهدافه الباطلة؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رَحِمَهُ اللهُ- في الغِشِّ في الديانات:
(فَأَمَّا الْغِشُّ فِي الدِّيَانَاتِ؛ فَمِثْلُ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
مِثْلَ: إِظْهَارِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِثْلَ: سَبِّ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ، وَجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ سَبِّ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَشَايِخِهِمْ وَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ الْمَشْهُورِينَ عِنْدَ عُمُومِ الْأُمَّةِ بِالْخَيْرِ.
وَمِثْلَ: التَّكْذِيبِ بِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ.
وَمِثْلَ: رِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ الْمُفْتَرَاةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِثْلَ: الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ، بِأَنْ يَنْزِلَ الْبَشَرُ مَنْزِلَةَ الْإِلَـٰهِ.
وَمِثْلَ: تَجْوِيزِ الْخُرُوجِ عَنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِثْلَ: الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وَآيَاتِهِ، وَتَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَالتَّكْذِيبِ بِقَدَرِ اللهِ، وَمُعَارَضَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.
وَمِثْلَ: إظْهَارِ الْخُزَعْبَلَاتِ السِّحْرِيَّةِ والشَّعْبَذِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَغَيْرِهَا، الَّتِي يُضَاهَىٰ بِهَا مَا لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ؛ لِيَصُدَّ بِهَا عَنْ سَبِيلِ اللهِ، أَوْ يُظَنَّ بِهَا الْخَيْرَ فِيمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ.
وَهَـٰذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَطُولُ وَصْفُهُ.
فَمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ هَـٰذِهِ الْمُنْكَرَاتِ؛ وَجَبَ مَنْعُهُ مِنْ ذَٰلِكَ وَعُقُوبَتُهُ عَلَيْهَا -إذَا لَمْ يَتُبْ حَتَّىٰ قَدَرَ عَلَيْهِ- بِحَسَبِ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ؛ مِنْ قَتْلٍ أَوْ جَلْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَٰلِكَ.
وَأَمَّا الْمُحْتَسِبُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَزِّرَ مَنْ أَظْهَرَ ذَٰلِكَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، وَيَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ فِي مَظَانِّ التُّهَمِ، فَالْعُقُوبَةُ: لَا تَكُونُ إلَّا عَلَىٰ ذَنْبٍ ثَابِتٍ، وَأَمَّا الْمَنْعُ وَالِاحْتِرَازُ: فَيَكُونُ مَعَ التُّهْمَةِ، كَمَا مَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنْ يَجْتَمِعَ الصِّبْيَانُ بِمَنْ كَانَ يُتَّهَمُ بِالْفَاحِشَةِ.
وَهَـٰذَا مِثْلُ الِاحْتِرَازِ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمُتَّهَمِ بِالْكَذِبِ، وَائْتِمَانِ الْمُتَّهَمِ بِالْخِيَانَةِ، وَمُعَامَلَةِ الْمُتَّهَمِ بِالْمَطْلِ)[12].
رحم اللهُ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيمية، ورحم اللهُ سلفَنا الصالحَ جميعًا.
انظُرْ إلىٰ هٰذا الكلام الرَّصين الجزْل في بيان أنواع الغشِّ في الديانات!
فماذا فات سيَّدَ قطب مما ذَكره شيخُ الإسلام؟! اللّٰهمَّ إلا القليل، وقد عَوَّض ما فاته بأشياء ذَكرتُها في "أضواء إسلامية"، وفي "مطاعنه في الصحابة"، وفي "الحدّ الفاصل"!
وأضيف اليوم جديدًا في هٰذا الكتيّب الذي ستَرىٰ فيه ما لا يُطاق مِنَ القَول على اللهِ وفي دِينه بغير عِلْم، ومِنَ الطعن في العلماء بما لم يَسبق أن سَمعتْه أُذناك أو قرأتَه في كتابٍ مِن الكتب!
فإنْ قلتَ: لماذا كلُّ هٰذا مع سيد قطب؟!
فأُجيبُك: لماذا وقع أكثرُ مِن هٰذا أضعافًا مضاعفةً مع الجهْم بن صفوان، والجهْميّة، ومع عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وأبي هاشم الجُبَّائِيُّ، والجاحظ، وثُمَامَةَ بن أَشْرَسَ، ومع الروافض ورؤوسِهم، والجبرية ورؤوسِهم، والمرجئة ورؤوسِهم، والصوفية ورؤوسِهم، بل والأشعرية ورؤوسِهم، منذ ذَرَّت قرونُ هٰذه البدعِ إلىٰ يومنا هٰذا؟!
واقرأ كُتبَ الجرح والتعديل والكتبَ التي خُصِّصت للجرح.
واقرأ كُتبَ السُّنّة (العقائد الصحيحة)، وانظرْ ماذا قالوا في أهل البدع وأئمَّتِهم ودُعاتهم وطوائفهم؟
واقرأ كُتبَ المقالات، وكُتبَ الْمِلَل والنِّحَل، حتىٰ لِمَن وقعوا في بِدع، حيث لم يَسعهم السكوتُ عمّا يَرونه باطلًا.
فقد انتقدوا الفِرَقَ والأشخاص، وبيّنوا ما وَقَعتْ فيه كلُّ فرقةٍ مِن ضلالٍ وانحرافٍ عنِ الحقِّ الذي جاء به محمدٌ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
ثم عدَّد حَفِظَهُ اللهُ أمثلةً لِمَا ذكره العلماءُ من فِرقِ ورؤوس أهلِ الضلال.
ثم قال بعد الإشارة إلىٰ ما في كتب سيد قطب من مَخاطر: 
"فهل السكوتُ عن كلِّ هٰذا مِن النصيحة والأمانة، ومِنَ الاعتصام بالكتاب والسُّنّة، والأخلاق الفاضلة، والآداب الراقية، أو هو مِن الغَشّ والخيانة؟!
قد يُعذَر مَن لا يَعرف ذٰلك ولا يُدركه لِسَببٍ مِنَ الأسباب التي يَعذره اللهُ بها، أمّا أنا وقد عَرفْتُ ذٰلك؛ فقد آليتُ علىٰ نفْسي لَأَقُومَنّ بذٰلك الواجبِ ما استطعتُ إلىٰ ذٰلك سبيلًا؛ فرارًا مِن جريمةِ الغِشِّ الكُبرىٰ في الدِّينِ، الغِشِّ لله ولِكتابهِ ولِرسولهِ ولِأئمّةِ المسلمين وعامَّتِهم.
وفرارًا مِن جريمةِ الكِتمانِ وعواقبِه الوخيمة التي توعَّد اللهُ بها الكاتِمين في قوله العظيم:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللّٰهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَـٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) (البقرة).
وقوله:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّٰهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللّٰهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذٰلِكَ بِأَنَّ اللّٰهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (البقرة).
إنّ مَن يَشحن تفسيرَ كتابِ الله بالبِدع والأهواء والتحريف، وإنّ مَن يؤلِّف كُتبًا يَشحنها كذٰلك بالبدع والأهواءِ القديمةِ والحديثة بِاسمِ الإسلام؛ يُعتبر متجرِّئًا علىٰ كتابِ الله وسُنَّةِ رسولِه، وآراؤه وأفكاره مشوِّهةٌ لِلحقّ الذي نزَّل اللهُ الكتابَ به، صارفةٌ للناسِ عنِ الحقِّ الذي تضمَّنه الكتابُ والسُّنّةُ التي هي بيانُ هٰذا الكتاب، وذٰلك موجود في كتب هٰذه الفرقة، ولا سيما كتب سيد قطب.
وإني لأُذكِّر الذين يَعرفون كلَّ هٰذا ويؤيِّدون هٰذه الدعوةَ مِن قريبٍ أو بعيدٍ بقولِ الله تعالىٰ:
﴿يَـٰأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (آل عمران).
إنني أنطلق في عملي هٰذا مِن منطلق النصيحةِ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، متَّبِعًا لِكتابِ الله وسُنَّةِ رسولِه في التحذيرِ مِن الضلالِ والبِدع، ومتأسِّيًا بالسَّلفِ الصالح -رضوانُ اللهِ عليهم- في جهادِهم، ونُصحِهم لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتِهم، والردُّ على أهل البدع جهاد.
أقول ذٰلك وإنْ ساءت ظنونُ المبْطِلين والمخَذِّلين، وإنْ كثرت إشاعاتُ الْمُرْجِفين، فهٰذه سُنّةُ اللهِ في خَلْقه؛ صراعٌ بين الحقِّ والمنافِحين عنه، وبين دُعاةِ الباطلِ وأنصارِ الباطل ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهُ تَبْدِيلًا (الأحزاب: من الآية 62).
وأقول للمخْدُوعين المغْشوشين:
استخدموا عقولَكم بِجِدٍّ وعَزْمٍ وإخلاصٍ وصِدقٍ، وحاكِموا ما يقدِّمُه الناصحون لكم -شفقةً عليكم ورحمةً بكم- إلىٰ كتابِ الله وسُنَّةِ رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهجِ السلفِ الصالحِ، وكلُّ ذٰلك -والحمدُ لله- متوفِّرٌ بين أيديكم، فما وجدتموه موافِقًا لِكُلّ ما ذَكرْتُ؛ فاقْبَلوه، لا لأجْلِ فلانٍ وفلان؛ بل لأنه الحقُّ، وما وجدتموه من خطأ؛ فاضربوا به عُرضَ الحائط، كائنًا مَن كان قائلُه.
وأخرِجوا أنفسَكم وعُقولَكم مِنَ الزنزانات والجدرانِ المظلمةِ التي وَضعكم فيها مَن لا يَرقب فيكم إلًّا ولا ذِمَّةً مِن سَماسرة السياسةِ والحِزبية، الذين لا يَهمُّهم إلا تحقيقُ مَطامعِهم وأهدافِهم السياسية.
واتَّقوا اللهَ في أنفسكم؛ فإنكم بهٰذا الاستخذاءِ والتَّبعيّةِ العمياءِ لا تَضرُّون إلا أنفسَكم، ولا نملك إلا البيانَ الواضحَ والنصيحةَ التي أوجبها اللهُ، ولم يَأْلُ الناصحون فيكم جهدًا، ولم يدَّخِروا وسعًا. وأزيدكم وأُبْلغ في النصيحة فأقول لكم:
اقرأوا كتابَ الله، وسُنَّةَ نبيِّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما دوَّنه سَلَفُ الأُمَّةِ الصالحُ وأئمَّتُها في ذمِّ التعصُّبِ والتحزُّبِ والهوىٰ والبدعِ وأهلِها، لعلّ ذٰلك يُساعدكم على الخروجِ ممّا أوقعكم فيه المخادِعون.
أسأل اللهَ الكريمَ أن يوفِّق شبابَ هٰذه الأُمَّةَ وشِيبَها لاتِّباعِ الحقِّ، وموالاةِ أهلِه، ولِبُغْضِ الباطلِ والهوىٰ والبدعِ وأهلِها، خاصّةً المعانِدين المخاصمين للحقِّ وأهلِه. إنّ ربي لَسميع الدعاء.
وصلَّى اللهُ علىٰ نبيِّنا محمَّدٍ وعلىٰ آلِه وصَحْبِه وسَلَّمَ" انتهىٰ كلامُ حاملِ لواء الجرح والتعديل في العصر الحاضر فضيلةِ الشيخ ربيع المدخلي حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَىٰ؛ "مجموع كتبه" (7/ 131 – 138، ط1، 1431، دار الإمام أحمد).

"لَهْفِي عَلَيْهِمْ كَمْ لَنَا قَدْ أَخْلَــــــصُوا * فِي النُّصْحِ لَوْ  كَانَتْ  لَنَا  أُذُنَانِ
لَهْفِي عَلَىٰ مَنْ يَجْلِــــــــــــــــــبُونَ عَلَيْهِمُوا * بِالنُّصْــــــحِ  كُلِّ أَذَىً   وَكُلَّ هَوَانِ
لَهْفِي عَلَىٰ مَنْ هُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَىٰ * مَا بَيْنَنَا  لَوْ  تُبْــــــــــــــــــــصِرُ  الْعَيْنَانِ"[13]

غُرَّة ذي القعدة 1434 


[1] - نَسبهما العلامةُ الصنعاني للعلامة ابن أبي شريف؛ "سبل السلام" بتحقيق أبي رَحِمَهُ اللهُ (4/ 554، ط1، 1427ﻫ، مكتبة المعارف - الرياض).
[2] - رواه الحافظ أبو داود رَحِمَهُ اللهُ، وحسّن إسنادَه أبي رَحِمَهُ اللهُ؛ "سنن أبي داود" (3657)، و"هداية الرواة" (1/ 161، ط1، 1422ﻫ، دار ابن القيم ودار ابن عفان).
[3] - أَعني أنه لا يُقتصر علىٰ هٰذا دون الآتي. ولا نَعدم أَثَرَ التحذيرِ مِن أولـٰئك؛ تأسيسَ مبتدئٍ جديد، أو هزَّ خامِلٍ بليد، أو تليينَ حديدِ عنيد!
[4] - "الإبانة الكبرىٰ" (394).
[5] - كما في الحديث المختلف في صحته: «يَحْمِلُ هَـٰذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ»، رواه الخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث" ورواه غيره، يُنظر تعليق الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- عليه في "هداية الرواة" (1/ 163، مصدر سابق).
[6] - يُنسب للإمام عبد الله بن المبارك، ينظر "بهجة الْمَجالس وأُنس الْمُجالس" (2/ 801، ط2، 1402ﻫ، دار الكتب العلمية)، ولعلّ كونَها (بُنيّات) أَولىٰ مِن (ثنيّات)، وبها يحصل الطِّباق مع (الأكبر)، واللهُ أعلم.
[7] - "صحيح مسلم" (المقدمة/ الباب الخامس).
[8] -  "المنظومة الميمية" للعلَّامة حافظ حكمي (البيتان: 160 و161).
[9] - رواه الحاكم وغيره، وصحَّحه أبي رَحِمَهُمُ اللهُ؛ "صحيح الترغيب والترهيب" (1775).
[10] - "صحيح مسلم" (102).
[11] - "صحيح مسلم" (101).
[12] - "مجموع فتاوىٰ شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ" (28/ 105 و106)، وأحالوا في كتاب فضيلة العلامة الربيع إلى: "الحسبة في الإسلام" الطبعة السلفية (ص26).
[13] - "موارد الظمآن لدروس الزمان" للشيخ عبد العزيز السلمان رَحِمَهُ اللهُ (6/ 571 و572، ط 30، 1424ﻫ).