الرؤية الشرعية -للمرأةِ المراد خِطبتها- رؤيتان



بسم الله الرحمٰن الرحيم
إِنَّ الْحَمْدَ لِلّٰهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ..
فإنَّ لِأبي -رَحِمَهُ اللهُ- في مسألةِ ما يُعرَف بـ (الرؤية -أو النظرة- الشرعيّة بقصدِ الخطبة) قولين: قديمًا، وجديدًا أخيرًا:
خلاصة القديم: أنّ لِلفتاةِ أن تجلس مع الخاطبِ، في حُضورِ محرمٍ لها، مُرتديةً مِن اللباس ما يَحِلُّ لها لبسُه أمام محارمها، فلها أن تكشفَ الشعرَ والرقبةَ، والساعدَ والقدمَ.
وهٰذا القديم يوجد للوالد به فتوىٰ صوتيّة في "المتفرقات" (الشريط 7، الدقيقة 24:10)، وهو نفسه "شرح الترغيب" (الشريط 11/ب، الدقيقة 20 تقريبًا)، وقد يُفهَم مِن كلامِه في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/ 204 – 209).
وأما الجديد الأخير: فهو المبثوث في عدةِ أشرطة له، وقد اخترتُ تفريغَ إحدىٰ هٰذه المبثوثات، مما أظنّ أنها أَوفاها:
سئل رَحِمَهُ اللهُ:
ما هو القَدْرُ المشروعُ في رؤيةِ الفتاةِ عند العَزْمِ علىٰ زواجِها؟
فأجاب:
"الرؤيةُ رؤيتان:
رؤيةٌ باتّفاقٍ مع البنتِ ووَليِّ أمرِها، وليس مع البنت فقط، رؤيةٌ بالاتِّفاق مع البنتِ وأهلِها، ووليِّ أمرها، في هٰذه الرؤية لا يجوز أن يَرىٰ منها إلَّا ما يُرىٰ منها عند خروجِها مِن دارِها إلى السُّوقِ.. إلى الشارع.. إلخ، أعني: الوجهَ والكفَّين فقط.
والرؤيةُ الأُخرىٰ: رؤيةٌ دون عِلْمِ الفتاة، وهٰذا نوعٌ يُمكننا أن نسمِّيَه بالِاختلاسِ المشروع، اختلاس مشروع، وهو أن يَنظر الخاطبُ إلىٰ مَن أُلقي في قلبه التزوُّجُ بها، فيَنظر إليها ما تمكن مِن أن يَرىٰ منها في غفلةٍ منها عنه، هٰذا جائزٌ دون تحديد، وهٰذا يُمكن في ظروفٍ مُعَيَّنة دون اتِّفاقٍ سابق، كما ثَبت عن بعضِ الصحابةِ أنه رؤي وهو يُوجِّه بَصَرَه إلى امرأةٍ في أُجّارِها: في سطحِ دارِها، وهٰذا يُسمَّىٰ عندنا في سوريا بـ (الْمَشْرَقَة)، أي السطح الذي يُنشَر فيه أو عليه الغسيل، فقد تُرى المرأةُ، فيما إذا أكَّد الناظرُ إليها، قد يَرىٰ شيئًا مِن ذراعها، قد يَرىٰ شيئًا مِن عُنقها ورأسها وشعرها، فإنْ كان غريبًا عنها؛ يأتي قولُه تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ إلىٰ آخرِ الآية (النُّور: 30)، وإن كان له هوًى في نكاحِها؛ فهو هنا يُسمَح له أن يَنظُرَ إليها لِقَصْدِ أن يَقع في نفسِه أن يتزوج بها أوْ لا.
ومِن هنا جاء حديثُ المغيرةِ بنِ شُعبةَ الآخَر، وهو أنه ذَكر لِلنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه تزوَّج امرأةً مِن الأنصار، قال: «هل نظرتَ إليها؟ فإنّ في أعين الأنصار شيئًا»، وفي لفظٍ: شينًا، قال: فنظرتُ إليها، فتزوجتُها، ووجدتُ فيها الخيرَ والبركة، أو كما قال.
إذًا؛ الرؤيةُ والنظرةُ إلى المرأةِ التي يُراد خِطبتُها رؤيتان:
رؤية بالاتِّفاق مع أهلِها وذويها: فلا يجوز إلَّا أن يُرىٰ منها قرص الوجه والكفين فقط.
أما الرؤية الأخرىٰ: فليس لها حدود" اﻫ مِن "سلسلة الهدىٰ والنُّور" (الشريط 593، 01:01:04).
وتُنظر أدلةُ هٰذه المسألة في "صحيحته" (95 - 99) -وقد ذَكر أبي في الفتوى الصوتيةِ السابقة بعضَها بمعناها-، مع الانتباه إلىٰ أنه تراجَع عن تصحيح أثرِ عُمَر بن الخطّاب في خِطبته أُمَّ كلثوم بنت عليّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، المذكورِ تحت الحديث (99)، وقد نبَّه إلىٰ ذٰلك في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (3/ 433 و434، تحت الحديث 1273)، وفي فتوىٰ صوتية أيضًا، كما سيأتي.
وقد صرّح الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- بتراجعه في "سلسلة الهدىٰ والنُّور"، (الشريط 311، الدقيقة 18:38)، ونصُّ السؤال:
ظَهَر رأيُكم في حَدِّ النَّظرِ إلى المخطوبةِ في "السلسلة الصحيحة"، وربما اطَّلع عليه المتخصِّصون، ولٰكنْ لو أراد الشيخُ أن يبيِّن لِلعامَّة هٰذا الحُكمَ؛ ماذا يقول؟
وبدأ أبي -رَحِمَهُ اللهُ- الجوابَ بمقدّمةٍ، إلىٰ أنْ وَصَل إلىٰ مُرادي منها هنا، إذ قال في الدقيقة (27:32):
"يوجد شيئان هنا توقَّفْنا عنهما:
أحدهما: ما سَبق ذِكره آنفًا، وهو الرواية هٰذه المتعلِّقة بأُمِّ كلثوم.. عدم صحَّتِها.
الشيء الثاني: أنه لا يجوز تَعَمُّدُ أن تَظهرَ أمامَه [أي أمام الخاطب] هٰكذا بأكثر مِن وجهِها وكفَّيها، وإنما يكون ذٰلك عنها دون عِلمها".
ثم أعاد في الدقيقة (47: 28):
"أقول بالنسبة للسؤال السابق:
القصَّة المذكورة المتعلِّقة بكَشْفِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ عن خطيبتِه أُمِّ كلثوم -كَشْفِه عن ساقِها-؛ تبيّن لي بعد أن وَقَفْنا علىٰ إسنادِها في المصدر الذي كان الحافظ ابن حجر [انقطاع في الشريط] إليه، ألا وهو "مصنّف عبد الرزاق" أنَّ الإسنادَ ضعيفٌ منقطِع لا تقوم به حُجّة.
ولزِم مِن ذٰلك أنْ نقف عند تلك الأحاديث التي كنتُ ذكرتُ بعضَها في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" وفي المجلَّدِ المشار إليه آنفًا، وهي تُفيد أنَّ للخاطبِ أن يَنظر إلىٰ مَن هو عازِمٌ علىٰ خِطبتِها أن يَنظر إلىٰ ما يبدو منها عادةً، ولو كانت في عُقرِ دارها، ولٰكنْ ذٰلك دون علمٍ منها، دون علمٍ منها.
أما أن يتَّفق الخطيبُ مع خطيبتِه، ولو بمَحْضَرٍ مِن محارمها، علىٰ أن يَرىٰ منها ما لا يجوز للأجنبيِّ أن يَرىٰ منها؛ فهٰذا مما لا نَعلم دليلًا عليه إلَّا القصةَ السابقةَ، وقد تبيَّن لنا ضعفُها، وقد رجعنا عنها".
ويستمرُّ الكلامُ فيما له صلةٌ بالمسألةِ إلىٰ أواخرِ الدقيقة 33.
كتبتُ هٰذا نصيحةً للأخوات، وقد علمتُ أنّ الكثير لا يزالون يعملون بالفتوى القديمة، ولم تَبلغْهم الأخرىٰ، فها قد تَبيّن الصُّبحُ... والحمدُ لِلّٰهِ وحدَه.

الإثنين 17 ذي القعدة 1434ﻫ