معنىٰ عبادة الاستغاثة وحُكْمُ صَرْفِها للأموات والغائبين ونحوِهم - مِن "حاشية ثلاثة الأصول"-


نصّ رسالة الجوّال

38- ما هي عِبادةُ الاستغاثة؟
وما معنىٰ إغاثةِ اللهِ تَعَالَىٰ لِعِبادِه؟
وما حُكْمُ صَرْفِها للأمواتِ والغائبين ونَحْوِهم؟


البيان

قال الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ:
(وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ:
قَوْلُهُ تَعَالَىٰ:
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية (الأنفال: 9) ).
قال الشيخُ عبدُ الرحمٰن بن محمد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
"وَأَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ وَأَفْضَلِ أَنْوَاعِهَا، وَهِيَ أَخَصُّ أَنْوَاعِ الدُّعَاءِ؛ فَإِنَّ دُعَاءَ الْمَكْرُوبِ يُقَالُ لَهُ: اسْتِغاثَةٌ.
وَالاسْتِغاثَةُ: هِي طَلَبُ الإغَاثَةِ، وَهُوَ: الإنْقَاذُ مِنَ الضِّيْقِ وَالشِّدَّةِ.
(وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ: غِيَاثُ الْمُسْتَغِيثِينَ، أََيْ: مُدْرِكُ عِبَادِهِ فِي الشَّدَائِدِ إذا دَعَوهُ، وَمُجِيبُهُمْ وَمُخَلِّصُهُمْ)[1].
فَإذا صَرَفَهَا أَحَدٌ لِغَيْرِ اللهِ، كَأَنْ يَسْتَغِيثَ بِالأَصْنَامِ أَوِ الأَمْوَاتِ أَوِ الْغَائِبَيْنَ أَوْ نَحْوِهِمْ؛ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول" ص58.
~~~~~ *** ~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
سبب نزول آية الأنفال:
عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ قَالَ:
(لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ:
«اللهُمَّ! أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي.
اللهُمَّ! آتِ مَا وَعَدْتَنِي.
اللهُمَّ! إِنْ تُهْلِكْ هٰذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ؛ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ».
فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ.
مَادًّا يَدَيْهِ.
مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ.
حَتَّىٰ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ!
فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ
فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ
ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ 
وَقَالَ:
يَا نَبِيَّ اللهِ! كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ.
فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (الأنفال: 9)
فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلائِكَةِ).
رواه الإمام مسلم (1763).

قال العلامة الشنقيطيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ- في الآية:
"وهٰذه الآية وأمثالها في القرآن تُؤخذ منها أسرارٌ ينبغي لنا -مَعاشر المسلمين- أن نَسِير عليها، هٰذا سيِّدُ الخلقِ محمّد (صلوات الله وسلامه عليه) لَمّا جاءه أعظمُ كَرْبٍ يكون كَرْبًا للأنبياء؛ لأنّ الكُروبَ إنما تَعْظُم على الأنبياء مِن جِهةِ ضياع الدِّين؛ لأنّ الدُّنيا لا أهميّة لهم فيها. وهٰذه الطائفة جَزَم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنها لو هَلكتْ وقُتلت لانكَسَرت شَوكةُ الإسلام، ولَضَاع الإسلام، ولم يُعْبَدِ اللهُ في أرْضِه، وانتشر الكُفر، وظَهرتْ قُوَّتُه، وطائفةُ الإسلامِ قليلةٌ ضعيفةٌ ليستْ بِذات عَددٍ ولا عُدَد، وطائفةُ الكُفرِ كثيرةٌ قويّة؛ هٰذا أَعْظَمُ كَرْبٍ دَهَمَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلمّا دَهَمَتْهُ هٰذه الكُروبُ جَعَلَ التِجاءَه الصَّادقَ إلىٰ خالِق السّماوات والأرض.
ومِن ذٰلك يُعْلم أنّ مَن دَهَمَتْهُ الكُروبُ وجاءتْه البَلايا والزلازِلُ أنه في ذٰلك الوقت إنما يَكون الْتِجاؤه كما كان الْتِجَاءُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلىٰ خالِقِ السّماوات والأرض (جَلَّ وعَلا)، فعلىٰ كلِّ مُسلمٍ أن يَفْهَم هٰذا ويَعْقله، ويَفْهَمَ أنّ العَبْدَ إذا دَهَمتْهُ الكُروبُ، وجاءته البلايا والْمِحَنُ والزلازلُ، أنّ التِجاءه في ذٰلك الوقت يجب انصرافُه إلىٰ ما صَرَفَ إليه النّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التِجاءه في ذٰلك الوقت، وهو الاستغاثةُ بخالِقِ السّماوات والأرضِ جَلَّ وعَلا.
واللهُ قد بَيَّنَ لنا -معاشر المسلمين- أنّ الإنسانَ إذا اضطرّ بأنْ دَهَمَتْه الكُروب، وأَحْدَقَتْ به النوائبُ والحوادثُ، أنّ الالتِجاءَ في ذٰلك الوقتِ مِن خَصائص خالِقِ السّماوات والأرض (جَلَّ وعَلا)، فلا يَجوز صَرْفُه لِغَيرِه كائنًا مَن كان، وأَوضَحَ اللهُ لنا هٰذا إيضاحًا شافيًا في آياتٍ كثيرة مِن كِتابِه؛ مِن أوضح تلك الآيات:
آياتُ سورة النَّمْل؛ لأنه إيضاحٌ لا لَبْسَ فيه، كهٰذا النّهار؛ لأنّ اللهَ يقول:
{ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل: الآية 59)، وفي القراءة الأخرىٰ: {أَمَّا تُشْرِكُونَ}[2]. ثم شرع تعالىٰ يُعَدِّد خصائصَ رُبوبيّتِه التي لا حَقّ فيها لغَيرِه ألبتّة، فقال:
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} الجواب: لا {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)}. ثم ذكر خاصية أخرىٰ مِن خصوصِ الرّبوبية فقال:
{أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)} الجواب: لا إلٰه مع الله. ثم قال -وهو محلّ الشاهد-:
{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} (النمل: الآيات 60 - 62) الجواب: لا واللهِ!
فهٰذه توضح ما وضَّحه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفِعْله أنّ مَنْ ألجأتْه الكُروبُ واضطرّتْهُ النوائبُ والزلازلُ أنه لا إلٰهَ مع اللهِ في ذٰلك الوقتِ يُرفَع إليه ذٰلك إلا خالقُ السّماوات والأرض؛ ولذا كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذٰلك الوقت الضَّنْك، والموقف الحرج، رَفَع ذٰلك الالتجاءَ إلىٰ خالِقِه (جلّ وعَلا)، وأثنى اللهُ عليه في ذٰلك، وأجابه بِمَدَدِ السماءِ ملائكةٍ مُنْزَلين، [وهٰكذا شأن][3] الأنبياء (صلوات اللهِ وسلامه عليهم) يَلتجئون إليه في تلك الظروف الحرجةِ والأوقاتِ الضنكة. وكان الكُفّارُ -لأَنّ عندهم عَقلاً مَعِيشيًّا دُنيويًّا- إذا نزلتْ بهمُ البلايا ودَهَمَتْهمُ الكُروبُ؛ أَخْلَصوا في ذٰلك الوقت الدعاءَ لِلّه، وأَعْطَوُا الحقَّ لِمَن له الحقُّ، حتىٰ إذا أَنقذهم اللهُ مِن ذٰلك؛ رَجعوا إلىٰ كُفْرِهم!
والآياتُ الدالَّةُ علىٰ هٰذا لا تكاد تحصيها في المصحفِ الكريم:
{وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} أي: وخافوا مِن الموت مِن هيجان تلك الأمواج؛ {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (لقمان: الآية 32).
{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} أي: ودَهَمتهم الأمواجُ، وعايَنوا الهَلاكَ؛ {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: الآية 65).
{وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (يونس: الآيتان 22، 23).
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)} (الإسراء: الآية 67 – 69).
والآيات بهٰذا المعنىٰ لا تكاد تحصيها في المصحف" اﻫ المراد مِن " العَذْب النَّمِير مِنْ مَجَالِسِ الشَّنْقِيطِيِّ فِي التَّفْسِير" (4/ 531 - 533، ط 2، 1426ﻫ، دار عالم الفوائد).


[1] - نسب نحوَها شيخُ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في "مجموع الفتاوىٰ" (1/ 111) إلىٰ أبي عبد الله الحليمي رَحِمَهُ اللهُ.
[2] -  قرأ البَصْريّان [أبو عمرو ويعقوب] وعاصمٌ بالغَيب، وقرأ الباقون بالخِطاب، يُنظَر: "النَّشْر" (2/ 338، دار الكتب العلمية، ب.ط، ب.ت).
[3] - جاء في هامش "العذب النمير" (4/ 532): "في هٰذا الموضع مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [  ] زيادة يتم بها الكلام".