معنى الاستعاذة، وسببُ تخصيصِها بربِّ الفلق في (سُورة الفلق) - مِن "حاشية ثلاثة الأصول"-


نصّ رسالة الجوّال


37- ما هي الاستعاذة؟
وما حقيقتها؟
وما الفَرْقُ بينها وبين اللِّياذ؟
وما سببُ تخصيصِ الاستعاذةِ بربِّ الفَلَقِ في (سُورة الفَلَق)؟


البيان
قال الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب رَحِمَهُ اللهُ:
(وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ*:
قَوْلُهُ تَعَالَىٰ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}** (الفلق: 1)، و{َقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (الناس: 1) ).
ومما جاء في "حاشية ثلاثة الأصول" ص57 و58:
"* الاسْتِعاذَةُ هِي: الالْتِجَاءُ وَالاعْتِصامُ والتَّحَرُّزُ.
وَحَقِيقَتُهَا: الْهَرَبُ مِنْ شَيْءٍ تَخَافُهُ إِلَىٰ مَنْ يَعْصِمُكَ مِنْهُ.
وَالْعِيَاذَ لِدَفَعَ الْمَكْرُوهِ, واللِّيَاذُ لِطَلَبِ الْمَحْبُوبِ, قَالَ الشَّاعِرِ:
يَا  مَنْ   أَلُوذُ   بِهِ   فِيمَا   أُؤَمِّلُهُ ... وَمَنْ أَعُـوذُ  بِهِ  مِمَّا   أُحَاذِرُهُ
لا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ ... وَلا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ
** أَمَرَ نَبِيِّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِفَالِقِ الإصْبَاحِ مِنْ شَرِّ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ, وَمِنْ شَرِّ الْغَاسِقِ وَالْحَاسِدِ, وَالْفَلَقُ: الصُّبْحُ.
وَقِيلَ: سَبَبُ تَخْصِيصِ الْمُسْتَعِيذ بِهِ:
أَنَّ الْقَادِرَ عَلَىٰ إِزَالَةِ هٰذِهِ الظُّلْمَةِ عَنِ الْعَالَمِ؛ هُوَ الْقَادِرُ أَنْ يَدْفَعَ عَنِ الْمُسْتَعِيْذِ مَا يَخَافُهُ وَيَخْشَاهُ" اﻫ مِن "الحاشية".

الفائدةُ الأخيرةُ جَليّةٌ بِما قاله شيخُ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ -"وَهُوَ مِمَّا كَتَبَهُ فِي الْقَلْعَةِ"؛ كما في "مجموع الفتاوىٰ" (17/ 504)-:
"وَسُورَةُ الْفَلَقِ فِيهَا الاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ الْمَخْلُوقَاتِ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَلِهٰذَا قِيلَ فِيهَا: {بِرَبِّ الْفَلَقِ}، وَقِيلَ فِي هٰذِهِ: {بِرَبِّ النَّاسِ}؛ فَإِنَّ فَالِقَ الإصْبَاحِ[1] بِالنُّورِ يُزِيلُ بِمَا فِي نُورِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا فِي الظُّلْمَةِ مِنَ الشَّرِّ، وَفَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ[2] بَعْدَ انْعِقَادِهِمَا يُزِيلُ مَا فِي عُقَدِ النَّفَّاثَاتِ، فَإِنَّ فَلْقَ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ أَعْظَمُ مِنْ حَلَّ عُقَدِ النَّفَّاثَاتِ، وَكَذٰلِكَ الْحَسَدُ هُوَ مِنْ ضِيقِ الإنْسَانِ وَشُحِّهِ، لا يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لإنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَرَبُّ الْفَلَقِ يُزِيلُ مَا يَحْصُلُ بِضِيقِ الْحَاسِدِ وَشُحِّهِ.
وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- لا يَفْلِقُ شَيْئًا إلا بِخَيْرِ:
فَهُوَ فَالِقُ الإصْبَاحِ: بِالنُّورِ الْهَادِي وَالسِّرَاجِ الْوَهَّاجِ، الَّذِي بِهِ صَلاحُ الْعِبَادِ.
وَفَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ: بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَالأَقْوَاتِ الَّتِي هِيَ رِزْقُ النَّاسِ وَدَوَابِّهِمْ.
وَالإنْسَانُ مُحْتَاجٌ إلَىٰ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ مِنَ الْهُدَىٰ وَالرِّزْقِ، وَهٰذَا حَاصِلٌ بِالْفَلْقِ.
وَالرَّبُّ الَّذِي فَلَقَ لِلنَّاسِ مَا تَحْصُلُ بِهِ مَنَافِعُهُمْ؛ يُسْتَعَاذُ بِهِ مِمَّا يَضُرُّ النَّاسَ، فَيُطْلَبُ مِنْهُ تَمَامُ نِعْمَتِهِ بِصَرْفِ الْمُؤْذِيَاتِ عَنْ عَبْدِهِ الَّذِي ابْتَدَأَ بِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ.
وَفَلْقُ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ دَلِيلٌ عَلَىٰ تَمَامِ الْقُدْرَةِ، وَإِخْرَاجِ الشَّيْءِ مِنْ ضِدِّهِ، كَمَا يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَالْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَهٰذَا مِنْ نَوْعِ الْفَلْقِ، فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- قَادِرٌ عَلَىٰ دَفْعِ الضِّدِّ الْمُؤْذِي بِالضِّدِّ النَّافِعِ" اﻫ مِن "مجموع الفتاوىٰ" (17/ 508).


[1] - قال تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (الأنعام: 96).
[2] - قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ: {إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذٰلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ} (الأنعام: 95).