التعليق على القَيْدِ الحديثيِّ لِقاعدة العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومن والاه
أمَّا بعد
قال الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- تحت عنوان:
(قاعدة العمل بالحديث الضعيف ليست علىٰ إطلاقها)
"ثم إن القاعدة المزعومة ليست على إطلاقها، بل هي مقيَّدة في موضعَين منها، أحدُهما حديثيٌّ، والآخَرُ فِقهيٌّ.

أ- القيد الحديثيُّ
أمَّا الحديثيُّ، فهو قولهم: "الحديث الضعيف"، فإنه مقيَّدٌ -اتفاقًا- بالضعيف الذي لم يشتدّ ضعفُه، بَلْهَ الموضوعَ".
ثم نقل الوالدُ شرائطَ العمل بالحديث الضعيف التي ذكرها الحافظُ ابن حجر العسقلانيّ:
"الأول: متفق عليه: أن يكون الضعفُ غيرَ شديد، فيخرج مَن انفرد مِن الكذَّابِين والمتَّهمين بالكذب، ومَن فحُش غلطُه.
الثاني: أن يكون مندرِجًا تحت أصلٍ عامٍّ، فيخرج ما يُخترع بحيث لا يكون له أصلٌ أصلًا.
الثالث: أن لا يُعتقد عند العمل به ثبوتُه؛ لئلا يُنسَب إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم يَقُلْه".
وذا تعليق -أبي رَحِمَهُ اللهُ- عليها:
(ما تُوجبُه الشروطُ المذكورةُ علىٰ أهلِ العلمِ مِن التمييز)
"قلتُ: وليس يخفىٰ على الفطِن اللبيب أنَّ هٰذه الشروط توجب علىٰ أهل العلم والمعرفة بصحيح الحديث وسقيمه أن يميِّزوا للناس شيئين هامَّين:
الأول: الأحاديث الضعيفة من الصحيحة؛ لكي لا يعتقد العاملون بها ثبوتَها، فيقعوا في آفة الكذبِ علىٰ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما تقدَّم في كلام الإمام مسلم[1] وغيره[2].
والآخر: الأحاديث الشديدة الضعف من غيرها؛ لكي لا يعملوا بها؛ فيقعوا في الآفة المذكورة.
والحقُّ -والحقَّ أقول- إنَّ القليل مِن علماء الحديث -فضلًا عن غيرهم- مَن له عناية تامَّة بالتمييز الأول، كالحافظِ المنذريِّ -علىٰ تساهُلِه المتقدِّمِ بيانُه- والحافظِ ابن حجر العسقلانيِّ في كتبه، وتلميذِه الحافظِ السخاويِّ في كتابه "المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة"، وغيرهم. وفي عصرنا هٰذا الشيخ أحمد شاكر -رَحِمَهُ اللهُ- في تحقيقه وتعليقه علىٰ "مسند الإمام أحمد" وغيره، ومثله اليوم أقلُّ من القليل.
وأقلُّ مِن هٰؤلاء بكثير مَن له عناية تامَّة بتمييز الأحاديث الضعيفة جدًّا مِن غيرها، بل إني لا أعلم مَن له تخصُّص في هٰذا المجال، مع كونه مِن الأمور الهامّة كما بيَّنتُه آنفًا، وهو عندي أهمُّ مِن عنايتهم بتمييز الحديث الحسن من الصحيح، مع أنه ليس تحته كبيرُ فائدة؛ لأن كُلًّا منهما يُحْتَجُّ به في الأحكام كما سبق، اللّٰهمَّ إلا عند التعارُض والترجيح، بخلاف ما نحن فيه، فإنه يُعمَل بالحديث الضعيف في الفضائل دون الضعيف جدًّا، فبيانُه واجبٌ مِن باب أولىٰ" اﻫ مِن "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 47 - 49).

الأربعاء 16 شعبان 1436هـ
ويتبع؛ لتجلية حُكم هٰذه القاعدة المزعومة...




[1] - نقله أبي -رَحِمَهُ اللهُ- ص 37 و38، وهو قولُ الإمام مسلم رَحِمَهُ اللهُ: "وَبَعْدُ -يَرْحَمُكَ اللهُ- فَلَوْلَا الَّذِي رَأَيْنَا مِنْ سُوءِ صَنِيعِ كَثِيرٍ مِمَّنْ نَصَبَ نَفْسَهُ مُحَدِّثًا فِيمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ طَرْحِ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالرِّوَايَاتِ الْمُنْكَرَةِ وَتَرْكِهِمُ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ مِمَّا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ الْمَعْرُوفُونَ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا يَقْذِفُونَ بِهِ إِلَى الْأَغْبِيَاءِ مِن النَّاسِ هُوَ مُسْتَنْكَرٌ وَمَنْقُولٌ عَنْ قَوْمٍ غَيْرِ مَرْضِيِّينَ مِمَّنْ ذَمَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، مِثْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَٰنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ؛ لَمَا سَهُلَ عَلَيْنَا الِانْتِصَابُ لِمَا سَأَلْتَ مِنَ التَّمْيِيزِ وَالتَّحْصِيلِ، وَلَـٰكِنْ مِنْ أَجْلِ مَا أَعْلَمْنَاكَ مِنْ نَشْرِ الْقَوْمِ الْأَخْبَارَ الْمُنْكَرَةَ بِالْأَسَانِيدِ الضِّعَافِ الْمَجْهُولَةِ، وَقَذْفِهِمْ بِهَا إِلَى الْعَوَامِّ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ عُيُوبَهَا؛ خَفَّ عَلَىٰ قُلُوبِنَا إِجَابَتُكَ إِلَىٰ مَا سَأَلْتَ.
وَاعْلَمْ -وَفَّقَكَ الله تَعَالَىٰ- أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَىٰ كُلِّ أَحَدٍ عَرَفَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الرِّوَايَاتِ وَسَقِيمِهَا، وَثِقَاتِ النَّاقِلِينَ لَهَا مِنْ الْمُتَّهَمِينَ- أَنْ لَا يَرْوِيَ مِنْهَا إِلَّا مَا عَرَفَ صِحَّةَ مَخَارِجِهِ، وَالسِّتَارَةَ فِي نَاقِلِيهِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ مِنْهَا مَا كَانَ مِنْهَا عَنْ أَهْلِ التُّهَمِ، وَالْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَىٰ أَنَّ الَّذِي قُلْنَا مِنْ هَٰذَا هُوَ اللَّازِمُ دُونَ مَا خَالَفَهُ: قَوْلُ الله جَلَّ ذِكْرُهُ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾. وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:
﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ﴾. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾.
فَدَلَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْآيِ أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ سَاقِطٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَأَنَّ شَهَادَةَ غَيْرِ الْعَدْلِ مَرْدُودَةٌ، وَالْخَبَرُ وَإِنْ فَارَقَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ فَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي أَعْظَمِ مَعَانِيهِمَا، إِذْ كَانَ خَبَرُ الْفَاسِقِ غَيْرَ مَقْبُولٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمَا أَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَىٰ نَفْيِ رِوَايَةِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْأَخْبَارِ كَنَحْوِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَىٰ نَفْيِ خَبَرِ الْفَاسِقِ، وَهُوَ الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَىٰ أَنَّهُ كَذِبٌ؛ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ». حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَٰنِ بْنِ أَبِي لَيْلَىٰ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ ح وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذٰلك" اﻫ مِن مقدمة "صحيح مسلم".