الجوابُ عن التساهُلِ الذي أساغه العلماءُ في ذِكر الحديث الضعيف في الترغيب والترهيب

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمد، وعلىٰ آله وصحبه أجمعين.
أما بعد
قال الوالد -رَحِمَهُ اللهُ- تحت عنوان:

ما ذكره المنذريُّ مِن تساهل العلماء في الترغيب والترهيب، والجوابُ عليه
فإن قيل: لِمَ هٰذا التفصيل والتشديد في رواية الحديث الضعيف، والمنذريُّ رَحِمَهُ اللهُ قد ذكر في مقدمة كتابه:
"أن العلماء أساغوا التساهلَ في أنواع من الترغيب والترهيب، حتىٰ إن كثيرًا منهم ذكروا الموضوع، ولم يبيِّنوا حاله".
وجوابًا عليه أقول:
إنَّ التساهلَ الذي أساغوه يَحتمل وجهين:
الأول: ذِكر الأحاديث بأسانيدها، فهٰذا لا بأس به، كيف لا وهو صنيع جميع المحدِّثين مِن الحُفَّاظ السابقين الذين كان أولُ أعمالهم في سبيل حِفظ السنة وأحاديثها، إنما هو جَمْعُها مِن شيوخها بأسانيدهم فيها، ثم مَن كان منهم علىٰ علمٍ بتراجم رواتها من جميع الطبقات ومعرفة بطرق الجرح والتعديل، وعلل الحديث؛ فإنه يتمكّن من التحقيق فيها، وأن يميّز صحيحها مِن سقيمها، وإلىٰ هٰذا وذٰلك أشاروا بقولهم المعروف: "قمِّش ثم فتِّش". فهو إذن مِن باب "ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب".
وعلىٰ هٰذا الوجه ينبغي أن يُحمل قولُ المنذريِّ المذكور عن العلماء؛ إحسانًا للظن بهم أولًا، ولأنه هو الذي يدلّ عليه كلام الحُفَّاظ ثانيًا، بالإضافة إلىٰ ما ذكرناه مما جرىٰ عليه عملهم، فهٰذا هو الإمام أحمد يقول:
"إذا جاء الحلال والحرام شَدَّدنا في الأسانيد، وإذا جاء الترغيبُ والترهيبُ تساهلنا في الأسانيد".
فهٰذا نصٌّ فيما قلناه، ومثله قولُ ابن الصلاح في "علوم الحديث" (ص113):
"ويجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهلُ في الأسانيد، وروايةُ ما سوى الموضوع مِن أنواع الأحاديث الضعيفة، مِن غير اهتمامٍ ببيان ضعفها، فيما سوىٰ صفات الله وأحكام الشريعة مِن الحلال والحرام وغيرهما، وذٰلك كالمواعظ والقصص وفضائل الأعمال، وسائر فنون الترغيب والترهيب، وسائر ما لا تعلّق له بالأحكام والعقائد".
فتأمَّل في قوله: "التساهل في الأسانيد"؛ يتجلّىٰ لك صحَّةُ ما ذكرنا. والسبب في ذٰلك: أنَّ مَن ذَكر إسنادَ الحديث فقد أَعذر وبرئت ذمَّتُه؛ لأنه قدَّم لك الوسيلة التي تُمَكِّن مَن كان له علم بهٰذا الفنّ مِن معرفة حال الحديث صحّة أو ضعفًا، بخلاف مَن حذف إسنادَه ولم يذكر شيئًا عن حاله، فقد كَتَمَ العلمَ الذي عليه أن يُبلِّغَه.

الأدبُ في رواية الحديث الضعيف عند ابن الصلاح
من أجل ذٰلك عقَّب ابن الصلاح علىٰ ما تقدَّم بقوله:
"إذا أردت رواية الحديث الضعيف بغير إسناد فلا تقُل فيه: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كذا وكذا، وما أشبه هٰذا من الألفاظ الجازمة بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذٰلك، وإنما تقول فيه: رُوي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا وكذا، أو: بَلَغنا عنه كذا وكذا.. وهٰكذا الحُكمُ فيما تشكّ في صحّته وضعفه، وإنما تقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. فيما ظهر لك صحتُه".

لا بدّ من التصريح بالضعف
قلت: فثبت أنه لا بد من بيان ضعف الحديث في حال ذِكره دون إسناده، ولو بطريق ما اصطلحوا عليه مثل: (رُوي) ونحوه، ولٰكني أرىٰ أن هٰذا لا يكفي اليوم؛ لغَلبة الجهل، فإنه لا يكاد يَفهم أحدٌ مِن كَتْبِ المؤلِّف أو قولِ الخطيبِ على المنبر: "رُوي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: كذا وكذا.." أنه حديث ضعيف، فلا بد من التصريح بذٰلك، كما جاء في أثر علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: "حَدِّثوا الناسَ بما يَعرفون، أتحبون أن يُكذَّب اللهُ ورسولُه" أخرجه البخاري، ولَنِعْمَ ما قال الشيخُ أحمد شاكر رَحِمَهُ اللهُ في "الباعث الحثيث" (ص101):
"والذي أراه أن بيانَ الضعف في الحديث الضعيف واجبٌ في كلِّ حال؛ لأنَّ ترك البيان يوهم المطَّلِعَ عليه أنه حديث صحيح، خصوصًا إذا كان الناقلُ مِن علماء الحديث الذين يُرجَع إلىٰ قولهم في ذٰلك، وأنه لا فرق بين الأحكام وبين فضائل الأعمال ونحوها في عموم الأخذ بالرواية الضعيفة، بل لا حجّة لأحد إلا بما صحّ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث صحيح أو حسن".
قلت: والوجه الآخر الذي يحتمله كلام المنذري المتقدِّم إنما هو ذِكر الأحاديث الضعيفة بدون أسانيدها، ودون بيان حالها، حتى الموضوع منها، فهٰذا -في اعتقادي- مما لا أتصوَّر أن يقولَه أحدٌ مِن العلماء الأتقياء؛ لِما فيه من المخالَفة لِما تَقَدَّم في كلام الإمام مسلم[1] مِن نصوص الكتاب والسُّنَّة في التحذير مِن الرواية عن غير العُدُول، لا فرْق في ذٰلك بين أحاديث الأحكام والترغيب والترهيب وغيرها، وكلامُ مسلم المتقدِّم صريح في ذٰلك" اﻫ مِن "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 50 - 53).

الخميس 17 شعبان 1436هـ



[1] - يُنظَر في التدوينة السابقة/ الحاشية.