تحقيقُ أنَّ قولَهم: "رجالُه رجالُ الصحيح" ونحوَه ليس تصحيحًا

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحبه ومَن سار على أثره ووالاه.
أمَّا بعد
فهٰهنا اختصارٌ لكلامِ الوالد في هٰذه المسألة، قال رَحِمَهُ اللهُ:

واعلم أنه ليس مِن التصحيح بل ولا مِن التحسين في شيء؛ قولُ المنذريِّ وغيرِه مِن المحدِّثين: "... رجاله ثقات"، أو ".. رجالُه رجالُ الصحيح" ونحو ذٰلك، خلافًا لِـمَا قد يَتبادر إلىٰ بعض الأذهان، وقد يكون مِن الأعلام، وذٰلك للأسباب الآتية:
أولًا: أنَّ ذٰلك لا يعني عند قائله أكثرَ مِن أنَّ شرطًا مِن شروط صحة الحديث قد توفَّر في إسناده لدى القائل، وهو العدالةُ والضبط، وأمَّا الشروط الأخرىٰ مِن الاتصال، والسلامة مِن الانقطاع والتدليس والإرسال والشذوذ وغيرها مِن العلل التي تُشترط السلامةُ منها في صحّة السند؛ فأمرٌ مسكوتٌ عنه لديه، لم يَقصد توفُّرَها فيه، وإلَّا لَصَرَّح بصحةِ الإسناد كما فعل في أسانيد أخرىٰ، وهٰذا ظاهر لا يخفىٰ بإذن الله، وانظر علىٰ سبيل المثال الحديث (563 - ضعيف) كيف أعلَّه المنذريُّ بالإرسال مع كون رجالِه إلىٰ مُرسِلِه رجالَ الصحيح! ونحو الحديث (609 - ضعيف) أعلَّه بالانقطاع، مع كون رجالِه كلِّهم رجالَ الصحيح، ولذٰلك قال الحافظ في "التلخيص" (ص239) في حديث آخر: "وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ رِجَالِهِ ثِقَاتٍ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْأَعْمَشَ مُدَلِّسٌ وَلَمْ يَذْكُرْ سَمَاعَهُ".

ثانيًا: أنه قد تبيَّن لي بالتتبُّع والاستقراء أنه:
- كثيرًا ما يكون في السند الذي قيل فيه: "رجاله ثقات" مَن هو مجهول العين أو العدالة، ليس بثقة إلا عند بعض المتساهلين في التوثيق كابن حِبَّان والحاكم وغيرهما.
- ومَن قيل فيه: "رجاله رجال الصحيح" أنه ممّن لم يَحتجَّ به صاحبُ "الصحيح"، وإنما رَوىٰ له مَقرونًا بغيره أو متابَعةً أو تعليقًا، وذٰلك يعني أنه لا يُحتجُّ به عند التفرُّد.
وإذا عرفتَ هٰذا فمِن الواضح أنَّ هٰذا القولَ وذاك لا يعني دائمًا أنَّ الرجال ثقات، أو أنهم محتجٌّ بهم في "الصحيح"، وبالتالي فلا يَستلزم في الحالة المذكورة تَحَقُّقَ الشرطِ الأول، بَلْهَ الشروطَ الأخرىٰ.

ثالثًا: قد يكون رجالُ الإسنادِ كلُّهم ممَّن احتجَّ بهم صاحبُ "الصحيح"، ولٰكنْ يكون فيهم أحيانًا مَن طَعَن فيه غيرُه من الأئمة؛ لِسوء حِفظٍ أو غيره ممَّا يُسقِط حديثَه عن مرتبة الاحتجاج به، ويكون هو الراجح عند المحقِّقِين، مثل يحيى بن سُليم الطائفيِّ عند الشيخين، وعبدِ الله بنِ صالح كاتبِ اللَّيث، وهشام بن عمَّار مِن رجالِ البخاريِّ، ويحيى بنِ يَمان العِجْليِّ عند مسلم، فإنَّ هٰؤلاء مع صِدقهم موصوفون بسوء الحفظ، وهو علَّةٌ تَمنع الاحتجاجَ بمِثله كما هو معلوم.

رابعًا: إنَّ قولَهم: "رجاله رجال الصحيح" لا بد مِن فَهْمِهِ أحيانًا علىٰ إرادة معنى التغليبِ لا العموم، أي أكثرُ رجالِه رجالُ "الصحيح"، وليس كلَّهم، وهٰذا حينما يكون مَن نُسِب الحديثُ إليهم مِن المصنِّفين دون البخاري ومسلم صاحبي "الصحيحَين" في الطبقة، بحيث لا يُمكنه أن يشاركَهما في الروايةِ عن أحدٍ مِن [شيوخهما] مباشرة، وإنما يروي عنه بواسطةِ راوٍ أو أكثر، كالحاكم والطبرانيّ وأمثالهما.
خذ مثلاً حديثًا أخرجه الحاكم (1/ 22) بالسند التالي: " حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ الْفَقِيهُ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ: أَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ.." إلخ السند، ثم قال: "صحيحٌ علىٰ شَرْطهما"، ووافقه الذهبيُّ.
قلت: فموسىٰ هٰذا مِن شيوخ الشيخَين، ومَن فوقه علىٰ شرطِهما، بخلاف اللَّذَين دونه، وهٰكذا كلُّ حديث عند الحاكم مُصَحَّحٌ علىٰ شرطهما، أو شرطِ أحدِهما، فإنما يعني شيخَهما ومَن فوقه، وأما مَن دُونه فلا، وقد يكون راويًا واحدًا أو أكثر. وعلىٰ هٰذا البيان ينبغي أن يَفهم طالبُ هٰذا العلمِ قولَ المنذريِّ في حديث "الصحيح" الآتي برقم (907): "رواه الحاكمُ، ورواتُه محتجٌّ بهم في (الصحيح)".
وأمَّا الحاكم فقال: "صحيحٌ علىٰ شرطِ الشيخَين"، وإنما لم يَنقُلْه المنذريُّ لأنه خطأ؛ فإنما هو علىٰ شرطِ مسلمٍ فقط، كما كنتُ بيَّنتُه في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" برقم ([86])، فقولُ المنذريِّ المذكورُ إنما هو على التغليب، وإنما يعني بدءًا مِن شيخ الشيخَين فيه، وهو هنا أبو بكر بنُ أبي شَيْبة فمَن فوقه، وأمّا مَن دُونه فلا. ثم إنّ هٰؤلاء قد يكونون ثقات، وقد يكونون غير ذٰلك، وكل ذٰلك قد بَلوناه في بعضِ أحاديثه، فانظر مثلًا في "الضعيف" الحديث رقم (409)، فإنه وإن كان صحَّحه الحاكمُ مطلقًا، فإنَّ شيخَ شيخِه فيه كذَّبه الدَّارقُطنيُّ، كما حكاه المنذريُّ هناك، وأمَّا النوع الذي قبله -أعني ما كان مِن رواية الثقاتِ عن شيوخِ الشيخين- فكثير جدًّا والحمد لله.

إلىٰ أن قال خاتمًا هذا التحقيق بقولِه رَحِمَهُ اللهُ:
وإذا عرفتَ أيها القارئ الكريم! هٰذه الحقائقَ حول قولِهم: "رجاله ثقات" أو "رجالُه رجالُ الصحيح"؛ يتبيَّن لك بوضوحٍ لا ريب فيه أنَّ ذٰلك لا يعني عندهم أنَّ الحديثَ صحيح، وإنما: أنَّ شرطًا مِن شروط الصحّة قد تحقَّق فيه، وهٰذا إذا لم يَقْترن به شيءٌ مِن الوَهْمِ أو التساهُلِ الذي سبق بيانُه، فمِن أجل ذٰلك لم أَعتبرِ القولَ المذكورَ نصًّا في التصحيحِ، يُمكن الاعتمادُ عليه حين لا يتيسَّر لنا الوقوفُ علىٰ إسنادِ الحديثِ مباشَرة.
فينبغي التنبُّه لهٰذا؛ فإنه مِن الأمور الهامّة التي يَضرُّ الجهلُ بها ضررًا بالغًا، أهمُّه نسبةُ التصحيحِ إلىٰ قائله، وهو لا يَقصده، وهٰذا ممَّا سمعتُه مِن كثيرٍ مِن الطُّلَّاب وغيرِهم في مختلفِ البلاد. اﻫ باختصار مِن "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 70 – 75).


الثلاثاء 22 شعبان 1436هـ