توضيحٌ بشأنِ سَترِ عَضُدِ المرأةِ أمامَ المرأة


الحمد لله والصلاة والسلام علىٰ خاتم رسُلِ الله
أمّا بعد
فقد نشرتُ قبل أيام ملفَّ "لباس المرأة المسلمة أمام المرأة المسلمة"، والمتضمِّن فتوىٰ أبي -رَحِمَهُ اللهُ- وغيرِه مِن أهل العلم في هٰذه المسألة، ورأيتُ أن أوضِّح نقطةً فيها؛ لِمَا بَلَغَني مِن فَهْمِ البعضِ لفتوى الوالدِ -رَحِمَهُ اللهُ- المبثوثةِ في كثيرٍ مِن أشرطته في أنّ ما يجوز إظهارُه مِن بدنها أمام النساء هو مواضعُ الزينة، ومنها موضعُ الدُّمْلُج، وهو سِوارٌ يوضع على العضد، إذ فَهِمْنَ منه إطلاقَ كشْفِ العضدِ كلِّه بمعناه اللغويِّ: "العَضُد: مَا بينَ الكَتِف والمِرْفَقِ"[1]! وليس الأمر كذٰلك؛ ففتوى الوالدِ فيها أيضًا بيانُ أنَّ تلك المواضع هي نفْسُها مواضعُ الوضوء، فقد قال (ص19 من الملف المشار إليه):
"مواضعُ الزينة: الرأس وما حوى: الأقراط، الطَّوق في العُنق، السِّوار في الْمِعْصَم، والدُّمْلُج في العَضُد، الخِلخال في القَدمين، أي: مواضع الوضوء، مواضع الوضوء هٰذه مواضعُ الزينةِ التي يَجوزُ للمرأةِ المسلمةِ أن تَظهَر بها أمامَ أختِها المسلمة" اﻫ كلام أبي رَحِمَهُ اللهُ.
وفي الوضوء لا يُغسل العضدُ إلى الكتف -على الراجح-، إنما المشروعُ هو الشُّروعُ فيه، فيُغسل ما فويق المرفق إسباغًا له[2]، هٰذا هو القدْرُ الذي يجوز كَشْفُه للمرأة، وهو نفْسُه موضعُ التزيُّن بالدُّملج المعْتدلِ الذي يُزيِّن دون إزعاجٍ ولا تعويق، لا الدُّملج الغليظ الذي يكاد يُصبِح كُمًّا!
هٰذا؛ مع الانتباه إلىٰ أمرَين مهمَّين:
1) أنَّ المسألةَ -كما يَذكر الوالدُ في كثيرٍ مِن إجاباته على العديدِ مِن المسائل- فيها فتوىٰ وتقوىٰ:
الفتوىٰ: هي ما عَلِمْتُنَّ؛ بناءً على الدليل.
والتقوىٰ: أن تزيد المرأةُ مِن حِشْمتِها حتىٰ أمامَ النساءِ المسلماتِ وأمامَ الْمَحارم.
ولنتأمَّلْ خَتْمَ آيةِ الأحزاب؛ إذ خُتمتْ بتوجيهِ الأمرِ بالتقوىٰ للنساء خاصّة:
﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ (الأحزاب: 55).
قال العلامةُ السعديّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ:
"ولَمَّا رَفَعَ الجُناحَ عن هٰؤلاء؛ شَرَطَ فيه وفي غيرِه: لُزُومَ تَقَوَى اللهِ، وأن لا يَكون في محْذورٍ شَرْعِيٍّ، فقال: ﴿وَاتَّقِينَ اللّٰهَ﴾، أي: استعْمِلْنَ تَقْوَاهُ في جميعِ الأحوال ﴿إِنَّ اللّٰهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ يَشْهَد أعمالَ العِباد، ظاهِرَها وباطِنَها، ويَسْمع أقوالَهم، ويَرىٰ حركاتِهم، ثم يُجازيهم علىٰ ذٰلك أَتَمَّ الجزاءِ وأَوفاهُ" اﻫ مِن "تيسير الكريم الرحمٰن" ص 671.
2) أنّ سَتْرَ المنكبِ وباطنِه، إذا كان متوقِّفًا علىٰ سَتْرِ أسفل العضد؛ فإنّ هٰذا -الأخير- يصبح واجبًا، وذٰلك وفق قاعدة: (ما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجب)، وعلى المرأةِ أن تكون فَطِنةً في هٰذا -كما هي فَطِنةٌ في غيره!- فلا تلبس ما قد يَكشفُ الْمُحَرَّمَ بأدنىٰ حركةٍ! كرفْعِ طِفلٍ، أو مَشْطِ شَعرٍ! وفوق ذٰلك تجعل الحُجّةَ وُقوفَها علىٰ فتوىٰ تجيز كَشْفَ العضد! كلَّا، أبي -رَحِمَهُ اللهُ- بريءٌ مِن هٰذا اللِّبْس وما والاه، ويمقته ولا يرضاه، ولا يُشجِّع عليه نصُّ فتواه، ذٰلك لِمن فَهمه ووعاه!
بل هناك فتوىٰ له -رَحِمَهُ اللهُ- تُجلِّي النصيحةَ للنساء في هٰذا الأمر، فتفضَّلْنَ:
سئل أبي رَحِمَهُ اللهُ:
هل يجوز للمرأة أن تلبس الخمارَ أمام أبيها وأخيها ومحارمها، أو تطرحه؟
فأجاب:
"كِلاهما سواء، لَبستْه أو طَرحتْه، الأمرُ جائز، ما دام السؤالُ عنِ الجواز فالأمرُ جائز، لٰكني أقول: الجوازُ يَشمل:
الأمرَ مستوي الطرفين، ويَشمل:
ما كان فِعلُه أفضلَ مِن تركِه، وهو جائز أيضًا.
فلذٰلك؛ فأنا أريد أن أفصِّل بعضَ الشيء هنا، بَعْدَ أن قلتُ: كلٌّ منها جائز، لٰكنْ بلا شكٍّ أنَّ الأفضلَ للمرأةِ المسلمةِ أن تَعتاد خِمارَها في عُقْرِ دارِها، ولا أن تعيش نِصفَ عارية بحُجَّةِ أنه لا يوجد أحد غريب! وقد يكون هٰذا الكلام صحيحًا؛ لأنه لا يوجد أحد غريب غير -مثلًا- زوجها، وغير ابنها، حتىٰ ولو بِنتها، لٰكنْ هٰؤلاء -باستثناء الزوج- لا يجوز لهم أن يَرَوا مِن أُمِّهم أيَّ موضعٍ مِن بَدنها غير أن تَعتاد على السُّترةِ الواجبة على الأقلِّ، وقد تكلَّمنا في هٰذا أكثرَ مِن مرّة، أمّا الآن فأريد أن أقول: ينبغي أن تعتاد السَّترَ الأفضلَ: وهو أن تلبس اللِّباسَ الطويلَ، وأن تلبس القميصَ -الذي يُسمُّونه اليوم (الرُّوب)- ذا الأكمامِ الطويلة، فإنْ قصُرَتْ ولابد فإلى الْمِرْفقَين، وأن تعتاد تخميرَ وتغطيةَ رأسِها وشعرِها، هٰذا ليس علىٰ سبيل الوجوب، وإنما علىٰ سبيلِ الاستحباب، هٰذا ما أراه في هٰذه المسألة" اﻫ منِ سلسلة "متفرقات" (الشريط 11، الدقيقة الأولىٰ، وكُرِّر المقطع نفْسُه في الدقيقة 30:53).
وأختم بروايةٍ لحديث النُّعمانَ بنِ بشير رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، والذي كان مِن أدلةِ الملفِّ المومىٰ إليه، إذ قال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول:
«اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ، مَنْ فَعَلَ ذٰلِكَ؛ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَمَنْ أَرْتَعَ فِيهِ؛ كَانَ كَالْمُرْتِعِ إِلَىٰ جَنْبِ الْحِمَىٰ، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، وَإِنَّ حِمَى اللّٰهِ فِي الْأَرْضِ مَحَارِمُهُ»[3].
فيا أخية!
اجعلي بينكِ وبين الحرامِ (سُترةً) مِن الحلال!
ووصيَّةُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ هٰذه مُغْنِيةٌ عن أيِّ تعقيبٍ وتصنيفٍ، ولٰكنْ كان لا بد مِن توطئةٍ للمُراد.

الثلاثاء 13 شوال 1434ﻫ


[1] - "النهاية في غريب الحديث والأثر" مادة (ع ض د).
[2] - عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرِ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَىٰ حَتَّىٰ أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَىٰ حَتَّىٰ أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَىٰ حَتَّىٰ أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَىٰ حَتَّىٰ أَشْرَعَ فِي السَّاقِ"، ثُمَّ قَالَ: "هَٰكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ". "صحيح مسلم" (246)، ويُنظر تحقيق أبي -رَحِمَهُ اللهُ- للحديث (1030) مِن "الضعيفة"، وخاصةً (3/ 107 و108) منها.
[3] - رواه ابنُ حِبّان وحسَّنه أبي رَحِمَهُما اللهُ؛ "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (896)، "التعليقات الحِسان علىٰ صحيح ابن حبّان" (173).