المَذْكُورُ في حديثِ جِبْرِيلَ هُوَ الدِّينُ -مِن "حاشية ثلاثة الأصول"-


نصّ السّؤال (رسالة الجوّال)

 

80- (المَذْكُورُ في حديثِ جِبْرِيلَ هُوَ الدِّينُ).
بيِّني ذٰلك.

البيان
الحمد لله وكفىٰ، وصلاةً وسلامًا علىٰ نبيِّه المصطفىٰ، وعلىٰ آلِه وصحْبِه ومَن أثرَه اقتفىٰ، أمّا بعد:
فقد جاء في حديثِ جبريل عَلَيْهِ السَّلَامُ:
«يَا عُمَرُ! أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلِ؟». قُلْنَا:
اللهُ ورسولُه أَعْلَمُ، قَالَ:
«هٰذَا جَبْرَائِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُم»*.
قال الشيخُ عبدُ الرَّحمٰن بن محمَّد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
* وَفِي رِوَايَةٍ: «يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»[1]، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَا ذَكَرَ فِي هٰذَا الْحَدِيثِ هُوَ أَمْرُ الدِّينِ، بَلْ هُوَ الدِّينُ؛ فَإِنَّهُ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَىٰ أُصُولِ الدِّينِ وَالْعَقَائِدِ، بَلِ انْحَصَرَتِ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِرَقُ الْمُسْلِمِينَ فِي هٰذَا الْحَدِيثِ، وَرَجَعَتْ كُلُّهَا إِلَيْهِ[2]، وَعَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ، وَشَرَفُهُ وَجَلالَتُهُ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول" ص 101.
~~~ فائدة ~~~
ممّا خَتَم به الحافظُ ابنُ حجر -رَحِمَهُ اللهُ- شرحَه لهٰذا الحديث قولُه:
"قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
هٰذَا الْحَدِيثُ يَصْلُحُ أَنْ يُقَال لَهُ:
أُمُّ السُّنَّةِ
لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ جُمَلِ عِلْمِ السُّنَّةِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ:
لِـهٰذِهِ النُّكْتَةِ اسْتَفْتَحَ بِهِ الْبَغَوِيُّ كِتَابَيْهِ "الْمَصَابِيحَ" و"شَرْحَ السُّنَّةِ" اقْتِدَاءً بِالْقُرْآنِ فِي افْتِتَاحِهِ بِالْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ عُلُومَ الْقُرْآنِ إِجْمَالًا.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ:
اشْتَمَلَ هٰذَا الْحَدِيثُ عَلَىٰ جَمِيعِ وَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، مِنْ عُقُودِ الْإِيمَانِ ابْتِدَاءً وَحَالًا وَمَآلًا، وَمِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِح، وَمِنْ إِخْلَاصِ السَّرَائِرِ وَالتَّحَفُّظِ مِنْ آفَاتِ الْأَعْمَالِ، حَتَّىٰ إِنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَيْهِ وَمُتَشَعِّبَةٌ مِنْهُ.
قُلْتُ [القائل الحافظ]: وَلِهٰذَا أَشْبَعْتُ الْقَوْلَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ الَّذِي ذَكَرْتُهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، لٰكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَتَضَمَّنهُ قَلِيلٌ، فَلَمْ أُخَالِفْ طَرِيقَ الِاخْتِصَار! وَاَللهُ الْمُوَفِّقُ" اﻫ مِن "فتح الباري" (1/ 152 ط 3، 1407 ، المطبعة السلفية).

الثلاثاء 20 شوّال 1434هـ.


[1] - "صحيح مسلم" (8).
[2] - يتجلَّى المرادُ بالفقرةِ الأخيرةِ إذا عَرفنا سياقَها في أصْلِها وهو "جامع العلوم والحكم" للحافظ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ، إذ قال بعد شَرْحِه المستفيضِ المفيدِ لِمَراتِب الدِّين المذكورةِ في الحديث:
"فَمَنْ تَأَمَّلَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ هٰذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ؛ عَلِمَ أَنَّ جَمِيعَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ تَرْجِعُ إِلَىٰ هٰذَا الْحَدِيثِ وَتَدْخُلُ تَحْتَهُ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ مِنْ فِرَقِ هٰذِهِ الأُمَّةِ لا تَخْرُجُ عُلُومُهُمُ الَّتِي يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا عَنْ هٰذَا الْحَدِيثِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا:
فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ: إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ خِصَالِ الإِسْلَامِ، وَيُضِيفُونَ إِلَىٰ ذٰلِكَ الْكَلامَ فِي أَحْكَامِ الأَمْوَالِ وَالأَبْضَاعِ وَالدِّمَاءِ، وَكُلُّ ذٰلِكَ مِنْ عِلْمِ الإِسْلَامِ، كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَيَبْقَىٰ كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الإِسْلَامِ مِنَ الآدَابِ وَالأَخْلَاقِ وَغَيْرِ ذٰلِكَ لا يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إِلا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، وَلا يَتَكَلَّمُونَ عَلَىٰ مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَهُمَا أَصْلُ الإِسْلَامِ كُلِّهِ.
وَالَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ: يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ، وَعَلَى الإِيمَانِ بِاللّٰهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَالإِيمَانِ بِالْقَدَرِ.
وَالَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ عَلَىٰ عِلْمِ الْمَعَارِفِ وَالْمُعَامَلاتِ: يَتَكَلَّمُونَ عَلَىٰ مَقَامِ الإِحْسَانِ، وَعَلَى الأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الإِيمَانِ أَيْضًا؛ كَالْخَشْيَةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالرِّضَا، وَالصَّبْرِ، وَنَحْوِ ذٰلِكَ.
فَانْحَصَرَتِ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِرَقُ الْمُسْلِمِينَ فِي هٰذَا الْحَدِيثِ، وَرَجَعَتْ كُلُّهَا إِلَيْهِ، فَفِي هٰذَا الْحَدِيثِ وَحْدَهُ كِفَايَةٌ، وَلِلّٰهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ" اﻫ مِن "جامع العلوم والحكم" (1/ 134 و135، ط 7، 1421ﻫ، مؤسسة الرسالة).