إِحْسَانُ الْعِبَادَةِ يكون علىٰ حَالَتَيْنِ (مَرْتَبَتَين) -مِن "حاشية ثلاثة الأصول"-


نصّ السّؤال (رسالة الجوّال)

75- ما مَعنىٰ إحسانِ العِبادة؟
وقد أشار النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلىٰ أنه يَكُون علىٰ حالتَين، ما هما؟
وما الذي يُثْمِرُهُما؟

البيان
جاء في حديث جبريل عَلَيْهِ السَّلَامُ:
«قَالَ:
أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ؟ قَالَ:
أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
قال الشيخُ عبدُ الرَّحمٰن بن محمَّد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
"هٰذَا الْقَدْرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّيْنِ، وَقَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْعِلْمِ، وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ الَّتِي أُوْتِيَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ إِحْسَانَ الْعِبَادَةِ:
هُوَ الإِخْلاصُ فِيهَا، وَالْخُشُوعُ، وَفَرَاغُ الْبَالِ حَالَ التَّلَبُّسِ بِهَا، وَمُرَاقَبَةُ الْمَعْبُودِ.
وَأَشَارَ فِي الْجَوَابِ إِلَىٰ حَالَتَيْنِ:
أَرْفَعَهُمَا: أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الْحَقِّ بِقَلْبِهِ حَتَّىٰ كَأَنَّهُ يَرَاهُ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْتَحْضِرَ أَنَّ الْحَقَّ تَعَالَىٰ مُطَّلِعٌ[1] عَلَيْهِ، يَرَىٰ كُلَّ مَا يَعْمَلُ.
وَهَاتَانِ الْحَالَتَانِ تُثْمِرُهُمَا مَعْرِفَةُ اللهِ وَخَشْيَتُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ[2] «أَنْ تَخْشَى اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ».
فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هٰذَا هُوَ الإِحْسَان، وَهُوَ دَليلُ الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ.
فَفِي هٰذَا الْحَديثِ دَلِيْلُ هٰذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلاثِ، وَأَنَّ أَرْكَانَهَا هِيَ مَا عَدَّهَا الْمُصَنَّفُ رَحِمَهُ اللهُ" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول" ص 96 و97.
فوائد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .   
قال العلامة الفوزان حَفِظَهُ اللهُ:
"فالإحسان بين العبد وبين ربه هو إتقانُه العملَ الذي كَلَّفه اللهُ به، بأن يأتي به صحيحًا خالصًا لِوجه الله عَزَّ وَجَلَّ.
عَمَلُ الإحسانِ بين العبد وربِّه ما توفَّر فيه:
الإخلاصُ لله عَزَّ وَجَلَّ.
والمتابَعةُ لِلرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد بيَّن النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الإحسان علىٰ مَرْتَبَتَين؛ واحدة أعلىٰ مِن الأخرىٰ:
الأُولىٰ: أن تَعْبَدَ اللهَ كأنكَ تَراه، بأنْ يَبلُغَ بك اليقينُ والإيمانُ باللهِ كأنك تُشاهد اللهَ عِيانًا، ليس عندك تردُّدٌ أو أيُّ شَكٍّ، بل كأنَّ اللهَ أمامَك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ تَراهُ عِيانًا، فمَن بَلَغَ هٰذه المرتبةَ؛ فقد بَلَغَ غايةَ الإحسان، «تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»؛ مِن كمالِ اليقينِ وكمالِ الإخلاص، كأنك ترى اللهَ عِيانًا.
واللهُ جَلَّ وَعَلا لا يُرَىٰ في الدُّنيا، وإنما يُرىٰ في الآخرة، ولٰكنْ تَراه بِقَلْبِكَ حتىٰ كأنكَ تَراه بِعَينَيك، ولذٰلك؛ يُجازَىٰ أهلُ الإحسانِ بِالآخرةِ بِأَنْ يَرَوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ، لَمَّا عَبَدُوه وكأنهم يَرَونَه في الدُّنيا؛ جَازاهمُ اللهُ بأنْ أَفْسَحَ لهمُ المجالَ بِأَنْ يَرَوهُ بِأَبْصَارِهم في دارِ النَّعيم.
قال تَعَالَىٰ: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ (يونس: 26).
الزِّيادَةُ: هي النَّظَرُ لِوَجْهِ اللهِ[3].
السبب: أنهم أَحْسَنوا في الدُّنيا.
فأَعطاهمُ اللهُ الحسْنَىٰ، وهي الجنة، وزَادَهم رؤيةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
«تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» على المشاهَدةِ، والْمَحَبَّةِ والشَّوقِ إلىٰ لِقائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ، تَتَلذَّذ بِطاعتِه، وتَطمئنُّ إلىٰ طاعتِه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ، تشتاق إليها، هٰذه طريقةُ المحسنين.
المرتبة الثانية: إذا لم تَبْلُغْ هٰذه المرتبةَ العظيمةَ فإنكَ تَعْبُدُه علىٰ طريقةِ المراقَبة، بأَنْ تَعْلَمَ أنَّ اللهَ يَراك، ويَعْلَمُ حالَك، ويَعْلَمُ ما في نفْسِك، فلا يليق بك أن تعصيَه، وأن تخالف أمْرَه، وهو يَراكَ ويطَّلع عليك.
وهٰذه حالةٌ جيّدة، ولٰكنّها أقلُّ مِن الأُولىٰ، وما دُمْتَ أنك تَعْلَم أنه يَراك؛ فإنك تُحْسِن عِبادتَه وتُتقنها؛ لأنك تَعْلَمُ أنّ اللهَ يَراك، وللهِ المثلُ الأَعْلىٰ؛ لو كنتَ أمام مخلوقٍ له منزلةٌ وأمَرَك بِأمر، وأنت تنفِّذ هٰذا الأمرَ أمامه ويَنظُر إليك؛ هل يليق بك أن يَقَع منكَ إخلالٌ بِهٰذا الفِعل؟
الحاصل: أنّ الإحسانَ علىٰ مَرتبتَين:
مرتبة المشاهَدة القلبيّة: وهي «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»؛ مِن شِدَّةِ اليقين والإيمان، كأنك تَرى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عِيانًا.
والمرتبة الثانية: وهي أقلُّ منها، أن تَعْبُدَ اللهَ وأنت تَعْلَمُ أنه يَراك ويطَّلِع عليك، فلا تعصيه ولا تخالف أمرَه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ.
هٰذه مرتبة الإحسان، وهي أعلىٰ مراتب الدِّين، مَن بَلَغها فإنه بَلَغ أعلىٰ مراتب الدِّين، وقَبْلَها مرتبةُ الإيمان، وقَبْلَها مرتبةُ الإسلام" اﻫ مِن "شرح الأصول الثلاثة" (ص 172 و173، ط دار الإمام أحمد).

قال العلَّامة حافظ الحكمي -رَحِمَهُ اللهُ- في منظومة "سُلَّم الوصول" البَيتان (224 و225):
وثَالِثٌ مَـرْتَبَةُ الإحْسَــــــــــــــــــــــــــــــــــــانِ * وَتِلكَ أعْلاَهَا لَدَى الرَّحْمٰنِ
وَهُوَ رُسُــــــــــــوخُ الْقَلْبِ في الْعِرْفَانِ * حَتَّىٰ يَكُونَ الْغَيْبُ كَالْعِيانِ
وقال في منظومة "الجوهرة الفريدة" البَيتان (195 و196):
جَامِعُ وَصْفِ الإِحْسَان
هٰذَا وِالاِحْسَانُ في سِرٍّ وَفي عَلَنٍ * أَصْلٌ وَمَعْنَاهُ عَنْ خَيْرِ الْوَرَىٰ يَرِدُ
أَنْ تَعْبُدَ اللهَ بِاسْــتِــحْضَارِ رُؤْيَتِهِ * إِيَّاكَ ثُمَّ كَمَنْ إِيَّاهُ قَدْ شَهِدُوا
~~~~~~~~~~~~~
تدويناتٌ متعلِّقة بمرتبةِ الإحسانِ

الأحد 4 شوال 1434


[1] - في الكتاب: "..أَنْ يَسْتَحْضِر الْحَقَّ تَعَالَىٰ مُطَّلِعًا.."، وعدّلتُ كما هي في "فتح الباري" (1/ 146، ط3، 1407ﻫ، المطبعة السلفية).
[2] - لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِن طريقِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ؛ "صحيح مسلم" (10).
[3] - عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ -قَالَ-: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا! أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ! قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ؛ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ تَلَا هٰذِهِ الْآيَةَ: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ﴾» "صحيح مسلم" (181).