فوائد متعلِّقة بعبارتَي (اللهُ أعلم) و(اللهُ ورسولُه أعلم)



نصّ السّؤال (رسالة الجوّال)

79- بيِّني كيف كانت عبارةُ (اللهُ أَعْلَمُ) نِصْفَ العِلمِ؟

البيان
الحمد لله، والصلاة والسلام علىٰ خاتم رسل الله، وعلىٰ آله وصحْبِه ومَنِ اتَّبع هُداه، أمّا بعد:
فقد جاء في حديثِ جبريل عَلَيْهِ السَّلَامُ:
فَمَضَىٰ، فَلَبِثْنَا مَلِيَّا، فَقَالَ:
«يَا عُمَرُ! أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلِ؟». قُلْنَا:
اللهُ ورسولُه أَعْلَمُ*، قَالَ:
«هٰذَا جَبْرَائِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُم».
قال الشيخُ عبدُ الرَّحمٰن بن محمَّد بن قاسم رَحِمَهُ اللهُ:
"* هٰذَا فِيه أَنَّ مَنْ سَأَلَ عَمَّا لا يَعْلَمُ أَنْ يَكِلَ الْعِلْمَ إِلَىٰ عَالِمِهِ، وَلا يَتَكَلَّفَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا حَكَى اللهُ عَنْه:
﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ۤ: 86).
فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ التَّكَلُّفِ أَنْ تَسْأَلَ الإِنْسَانَ عَنْ شَيْءٍ فَيَتَكَلَّفَ الْعِلْمَ بِهِ، وَلِهٰذَا قِيْلَ فِي (اللهُ أَعلمَ): نِصْفُ الْعِلْمِ, يَعْنِي:
أَنَّ الْعِلْمَ يَنْقَسِمُ إِلَىٰ قِسَمِينَ:
فَوَظِيفَةُ مَا تَعْلَمُ أَنْ تُجِيْبَ عَنْهُ بِمَا تَعْلَمُهُ.
وَمَا لا تَعْلَمُهُ تَقُوْلُ فِيْهِ: (اللهُ أَعْلَمُ)" اﻫ مِن "حاشية ثلاثة الأصول" ص 100.
~~~~ فائدة ~~~~
قال الصحابيُّ الجليلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ؛ فَلْيَقُلِ: اللّٰهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ: لَا أَعْلَمُ. قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وفي روايةٍ: إنَّ اللهَ بعَثَ محمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال) :
﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ۤ: 86)".
ينظر "مختصر صحيح الإمام البخاري" للوالد رَحِمَهُ اللهُ (3/ 244/ 1947).
قال الحافظ رَحِمَهُ اللهُ:
"وَقَوْله: (إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ: لَا أَعْلَمُ) أَيْ أَنَّ تَمْيِيزَ الْمَعْلُومِ مِنَ الْمَجْهُولِ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَهَٰذَا مُنَاسِبٌ لِمَا اشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ (لَا أَدْرِي) نِصْفُ الْعِلْمِ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ فِيمَا لَا يَعْلَمُ قِسْمٌ مِنَ التَّكَلُّفِ" اﻫ "فتح الباري" (8/ 372، ط 3، 1407ﻫ، المطبعة السلفية).

"قَالَ أَبُو دَاوُدَ:
(قَوْلُ الرَّجُلِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ: "لَا أَعْلَمُ" نِصْفُ الْعِلْمِ).
وَقَالَ الرَّاجِزُ:
فَإِنْ  جَهِلْتَ  مَا  سُئِلْتَ عَنْهُ * وَلَمْ  يَكُنْ  عِنْدَكَ  عِـــلْمٌ  مِنْهُ
فَلَا  تَقُلْ  فِيــــــهِ   بِغَيْرِ   فَهْمِ * إِنَّ الْخَطَا  مُزْرٍ  بِأَهْلِ   الْعِلْمِ
وَقُلْ  إِذَا  أَعْيَاكَ  ذَاكَ  الْأَمْرُ * مَا لِي  بِمَا  تَسْأَلُ  عَنْهُ  خُبْرُ
فَذَاكَ شَطْرُ  الْعِلْمِ عَنِ الْعُلَمَا * كَذَاكَ مَا زَالَتْ تَقُولُ الْحُكَمَا"
مِن "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 842، ط 1، 1414، دار ابن الجوزي).

~~~~ تنبيه ~~~~
 كتب أبي -رَحِمَهُ اللهُ- في "أصل صفة صلاة النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (3/ 1019):
"(تنبيه): جرتْ عادةُ كثيرٍ مِن الناسِ أنهم إذا سُئل أحدُهم عمّا لا عِلْمَ له به، سواء كان باستطاعةِ البَشَرِ عادةً معرفتُه أم لا؛ أجاب بقوله: الله ورسوله أعلم.
وهٰذا جَهْلٌ بِالشَّرْعِ؛ فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان يَعْلَم الغيبَ وهو في قَيْدِ الحياةِ -كما حكى اللهُ تَعَالَىٰ ذٰلك عنه في القرآن: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ (الأعراف: 188)- ؛ فكيف يَعلمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذٰلك بعد أنِ انتَقَل إلى الرَّفيقِ الأَعْلَىٰ؟!
فالصوابُ اليومَ أن يَقتصِر في الجواب علىٰ قولِه: اللهُ أعلم.
وإنما كان الصحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم يُجيبونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقولِهم: اللهُ ورسولُه أعلم؛ لِعِلْمِهم بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما سَألهم إلَّا وعِنده عِلْمُ ذٰلك، وإلَّا لِيُنَبَّئَهُم به.
فتنبَّهْ لِهٰذا، ولا تكُن مِنَ الغافِلين!" اﻫ كلامُ أبي رَحِمَهُ اللهُ.
ولم يَستثنِ -أبي رَحِمَهُ اللهُ- مِن ذٰلك شيئًا، إلَّا المسألةَ المنصوصَ عليها في الكتاب والسُّنَّة، والتي تَيَقَنَّا أنَّ الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ كان علىٰ عِلْمٍ بها؛ إذ خَتَمَ ذات مرةٍ جوابَه علىٰ سؤالِ أحد الحاضرين بعبارة: (واللهُ أعلم) ثم نَبَّهَ:
"أقول هٰذا وأُنهي الجوابَ بِقولي: واللهُ أعلم. وإيَّاكم أن تقولوا في مِثل هٰذه المناسَبة: (اللهُ ورسولُه أعلم)؛ لِأنَّ هٰذا شِركٌ لَفْظِيٌّ. -المتحمِّسون للسؤال أظنّ ما فَهموا تَعليقي الأخير؛ لأنهم يُفكِّرون فيما يريدون أن يَسألوا!-.
وأنا أُذكِّركم بشيءٍ مهمٍّ جدًّا:
الواحد يقول للثاني:
تَعرف البارحة ماذا تعشَّينا؟ يقول له:
(اللهُ ورسولُه أعلم).
صحيح أم لا؟!
فهٰذا لا يجوز أن يقال؛ لأن رسولَ الله ليس يَعْلم كلَّ ما يَقع وما يَحدُث، هٰذا عِلْمٌ اختصَّ الله به. لٰكنِ الشُّبهة مِن أين تأتي؟ أنّ هناك أحاديث كثيرة أنَّ الرسول عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأل أصحابَه في بعضِ المناسبات مِثلَ هٰذا السؤال، فكان جوابُهم: (اللهُ ورسولُه أعلم)، هٰذا شيءٌ، وبَعْدَ انتقالِ الرسولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِن هٰذه الحياة الدنيا الفانية إلى الحياة البرزخية التي هو فيها يَلقىٰ نوعًا أو بعض جزائه مِن ربه تَبَارَكَ وَتَعَالَىٰ على قيامِه بِواجبِ الدعوةِ والتبليغِ لها، فهو كان في قَيْدِ حياتِه متَّصلًا بسببٍ قويٍّ بِالسماء، بِوحْيِ السماء، هٰذا مِن جهة.
مِن جهة أخرىٰ: حينما كان يَسأل أصحابَه؛ كأنَّ الصحابةَ يَنتبهون إلىٰ أنه عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسألهم عن شيءٍ هو علىٰ عِلْمٍ به، ولذٰلك؛ كان يكون جوابُهم: (اللهُ ورسولُه أعلم)، وفعلًا الذي انتبهوا له تَحقَّقوا منه حينما يُخبرهم الرسولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عن الشيء الذي تَوَجَّه به يَسألهم عنه.
والأمثلة التي تمرُّ بالقارئ لِلسُنَّةِ والباحثِ فيها كثيرة وكثيرة جدًّا، لعلَّ مِن أشهرها -مما لا يخفىٰ علىٰ كلِّ الحاضرين إن شاء الله-: قصةَ جبريل عَلَيْهِ السَّلَامُ التي رواها عبدُ الله بن عمر ورواها أبوه أيضًا عمرُ بن الخطَّاب التي فيها:
(بينما نحن جلوسٌ عند رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ، إذ جاء رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرىٰ عليه أثر السفر، ولا يَعرفه منّا أحد، حتىٰ دنا مِن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَسَلَّمَ، فأَسند ركبتيه بركبتيه ووضع كفيه علىٰ فخذيه، ثم قال: يا محمَّد! أخبِرني عن الإسلام... أخبِرني عن الإيمان... أخبِرني عن الإحسان... أخبِرني عن الساعة...) وإلىٰ آخرِ الحديث، ثم وَلَّى الرَّجلُ، قال لهم عَلَيْهِ السَّلَامُ -وهنا الشاهد-:
«أتدرون مَنِ السائل؟» قالوا:
(اللهُ ورسولُه أعلم)، قال:
«ذاك جبريل جاءكم يعلِّمكم دِينكم».
[فمِثلُ] هٰذا السؤال مِن الرسول عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلأصحاب فيه إشعارٌ لِهٰؤلاء المسؤولين أنَّ الرسولَ علىٰ عِلْم؛ لذٰلك قالوا له في مثل هٰذا السؤال: (اللهُ ورسولُه أعلم)، أما اليوم:
تَعرف أنا ماذا أريد أن أسألك الآن؟
(اللهُ ورسولُه أعلم).
لا؛ الرسولُ ما يَعرف الغيب، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَسُولٍ (الجنّ: من الآيتين 26، 27)، مِن رسولٍ حيٍّ، مُبَلِّغٍ رسالاتِ ربِّه، أمَّا بَعْدَ وفاتِه؛ فهو الآن في طريقِ لِقائِه لِجزائِه مِن ربِّه.
فأنا قلتُ آنفًا مِن بابِ التنبيه: أقول في مِثل ذٰلك السؤال: اللهُ أعلم، فلا تقولوا اليوم في أيِّ شيءٍ: (اللهُ ورسولُه أعلم)، إلَّا إذا كانتِ المسألةُ منصوصًا عليها في الكتاب والسُّنَّة، ونحن علىٰ يقينٍ أنَّ الرسولَ كان علىٰ عِلْمٍ بها؛ فشَأنُنا حينذاك شأنُ الأصحاب. هٰذه ذِكرىٰ، والذكرىٰ تَنفعُ المؤمنين" اﻫ مِن "سلسلة الهدىٰ والنور" الشريط (729)، الدقيقة (28:56).

الإثنين 19 شوّال 1434ه.